اسم الوردة .. الجزء الأول
من أسباب النجاح الكبير الذي لاقته رواية “اسم الوردة” أنها تمتزج فيها أدوات الرواية البوليسية بالرواية التاريخية بالرواية الفلسفية بالرواية النقدية برواية الغموض ورواية الجريمة ورواية الرعب، إذ يستطيع القارئ العادي أن يحظى بمتع كثيرة في رواية واحدة، إذ يجد روح شيرلوك هولمز حاضرة بقوة وكذلك روح أجاثا كريستي وهيتشكوك، ذلك كله ممزوج بالتاريخ والأدب والفلسفة وأسرار الكنيسة وفساد رجال الدين، أما عن تعريف الرواية، فتُعرَّف تارةً بأنها رواية غموض وتارةً بأنها رواية بوليسية، وهي مسميات متواضعة لرواية في الحقيقة عمل ضخم من الناحية الأدبية والفكرية.
وصلت مبيعات “اسم الوردة” إلى أكثر من 60 مليون نسخة، وتُرجِمت إلى أكثر من 80 لغة، وربما استخدم مؤلفها أمبرتو إيكو تلك المشهيات الشعبية كلها من غموض ورعب وإثارة وبوليسية وتشويق بهدف جذب الناس لقراءة روايته، في نوع من الحرفية أو الذكاء التجاري الذي يستخدمه الكتّاب أحيانًا لتحقيق النجاح، خصوصًا وقد تعمد استخدام أسلوب التشكيك في شخصيات عدة في الوقت نفسه دون الكشف عن القاتل الحقيقي حتى اللحظة الأخيرة، وهو أسلوب أساسي في أعمال الغموض والجريمة.
اسم الوردة للكاتب أمبرتو إيكو
ظلت الرواية لسنوات محض فكرة في ذهن أمبرتو إيكو، وقبل أن يشرع في كتابتها قال في إحدى المناسبات إنه إذا قرر يومًا كتابة رواية فستكون في دير من أديرة العصور الوسطى، ومن أجل تأليفها سيعمل على «تأثيث عالم داخلها»، وهو ما فعله.
قبل أن نستطرد في الحديث عن الرواية نحب أن نذكر أن مؤلفها الإيطالي أمبرتو إيكو فيلسوف وروائي ومؤرخ، فنحن من ثم أمام عمل لفيلسوف وباحث في التاريخ وأديب، وهذا هو الأساس الذي يجب أن تُبنى عليه أي قراءة للرواية، أما التشويق والإثارة وغيرها فهي الإطار ويجب التفرقة بين الإطار والمحتوى، لهذا نرى أن تصنيفها رواية بوليسية غير صحيح.
ولد أمبرتو إيكو عام 1932 وتوفي عام 2016، وبعنوان “Il nome della rosa” نشر “اسم الوردة” لأول مرة بالإيطالية وكان ذلك في عام 1980، ثم تُرجِمت إلى الإنجليزية عام 1983، ثم إلى كثير من اللغات الأخرى بعد ذلك لتحقق نجاحًا كبيرًا كان من بعض أصدائه أن تحولت عام 1986 إلى فيلم متنوع الجنسيات يحمل اسمها بالألمانية “Der Name der Rose”، إذ أدى دور بطولته الفنان الاسكتلندي العالمي شون كونري والممثل الأمريكي كريستيان سلاتر وأخرجه المخرج الفرنسي جان جاك آنود.
أحداث رواية اسم الوردة
تدور أحداث الرواية عام 1327 في دير كبير بشمال إيطاليا، تكررت فيه حوادث القتل الغامضة التي كان ضحاياها جميعهم من رهبان الدير، ومن الغريب أن الرهبان بدلًا من البحث عن القاتل الذي يستهدفهم ويهدد حياتهم، ظنوا أن روح الشيطان هي المسؤولة عن حوادث القتل وقد استطاعت اختراق الدير، ثم يصل الراهب الفرانسيسكاني ويليام وهو محقق موهوب وقوي الملاحظة، كان من الذكاء بحيث لم يفكر في اتهام الشيطان مثلهم، بل راح يبحث عن القاتل الحقيقي وقد تيقن من أن القاتل شخص بداخل الدير، كان ويليام يعمل محققًا في محاكم التفتيش قبل أن يستقيل من وظيفته بها بسبب “وحشيتها” وبُعدها عن روح الدين وفق تعبيره، وهذا مهم كونه خلفية عنه تبين طبيعته الشخصية الإنسانية والمحايدة، التي ستلعب دورها في كشف حقيقة ما يحدث داخل الدير، حقيقة كل شيء وليس جرائم القتل فقط.
مما سيضاعف الإثارة في رحلة ويليام للبحث عن الحقيقة أمران: الأول أن القاتل واحد من المقيمين داخل الدير، فهو بالتأكيد يروح ويجيء طول الوقت أمام أعين الجميع ومنهم ويليام نفسه، بناء عليه فهو يشكل خطرًا على الجميع خصوصًا أن لا أحد يدري كيف ولا متى ولا أين سيضرب ضربته التالية، فكلما أمكن التعجيل بمعرفته أُنقِذت من القتل أرواح بريئة. ثانيًا أنه قد كُلِّف ويليام بالتوصل إلى القاتل في سبعة أيام فقط سيقضيها في الدير، من هنا يولد عنصر إثارة إضافي متمثلًا في الصراع مع الزمن للوصول إلى الجاني، أما لماذا سبعة أيام بالتحديد فلأنها الزمن المتاح قبل وصول وفد البابا للقاء ممثلي الإمبراطور والطائفة الفرنسيسكانية، للتوصل إلى حل بشأن جدل محموم كان يدور في تلك الأيام بخصوص «مبدأ فقر الكنيسة»، إذ اعتبر بعضهم الثروة والرخاء شرًا يجب مقاومته وذلك في مقابل وجهة نظر مناقضة ترى أن الرفاهية نعمة من الله.
ويليام لم يأت إلى الدير بمفرده بل كان بصحبته مساعده وتلميذه آدزو، الذي اختاره المؤلف ليسجل الوقائع ويسردها من متابعته لأداء أستاذه ومعايشته لما يدور حوله من أحداث مخيفة.
بالإضافة إلى عقبة الوقت وخطورة وجود القاتل في المكان، تواجه الراهب المحقق ويليام مشكلة أخرى: وجود أحد محققي محاكم التفتيش الذي كان قد اتهم ويليام من قبل بالكفر وهدده بالقتل، وهو لهذا معترض من الأساس على تكليف ويليام بمهمة البحث عن القاتل، مما يزيد من الصعوبات التي تواجه بطل الرواية في طريقه لحل اللغز وكشف الحقيقة، ينهمك ويليام مع ذلك في محاولة معرفة القاتل في الوقت الذي تستمر فيه حوادث القتل، فكان يدرس كل حادثة على نحو منفصل لعله يخرج منها بشيء يوصله للقاتل، لكن العكس هو ما يحدث، فالقضية تزداد غموضًا مع كل قتل جديد، لكن القراء يعيشون معه الحيل البوليسية والملاحظات الذكية التي يتميز بها المحقق الماهر، مما يجعل طابع حكايات شيرلوك هولمز يطغى على الأحداث، ويجعل القارئ يلهث ما بين محاولات ويليام لحل اللغز والأحداث المثيرة المتتالية، بالإضافة إلى الأسرار العجيبة التي تتكشف داخل الكنيسة، منها السرقة والفساد والانحراف والعلاقات الجنسية مع نساء يحضرن سرًا من خارج الكنيسة بل حتى الشذوذ الجنسي بين الرهبان، وجرائم القتل المرعبة التي ما زالت تحدث بوتيرة ثابتة، هذا بالإضافة إلى الأسرار التي تخص المسيحية التي حرصت السلطات الدينية في داخل الدير بل وفي داخل الكنيسة البابوية نفسها على التكتم عليها، وترتبط بالتعديلات التي طرأت على النصوص العقائدية أو على الديانة المسيحية نتيجة تدخل العوامل السياسية والتاريخية على مر العصور.
الفصل الأول من رواية اسم الوردة
قد يصدم القارئ أن الجزء الأول من الرواية فيه تفاصيل كثيرة وسرد مكثف، وهو ما دعا الناشر وكذلك المقربين من إيكو أن ينصحوه باختصار المعلومات وتخفيفها حتى لا تكون معقدة ومملة للقارئ، لكن إيكو رد عليهم قائلًا: “لو أراد أحد أن يدخل إلى الدير، وأن يعيش فيه سبعة أيام، فعليه أن يقبل نسق الدير، تلك الصفحات المئة الأولى مثل تدريب، وإذا لم يقبلها القارئ فالأمر أمره، وسيبقى في أسفل الجبل، فالدخول إلى الرواية أشبه بتسلق الجبال: عليك أن تتعامل مع صعوبة ارتقاء الجبل، وإلا فالأولى أن تتوقف عن الصعود”. هكذا أكد الكاتب على ضرورة الصفحات المئة الأولى من حيث إنها تجعل القارئ يعيش التجربة داخل الدير على أساس متين ليصبح كل شيء بعدها مفهومًا له، وأن يصبر على كثرة المعلومات والتواريخ والحقائق والأرقام كأنه يتعلم لغة جديدة، فأنت من دون معرفة اللغة لن تفهم أهلها، كذلك يعتقد إيكو أنك إن لم تصبر على تلقي المعلومات في الصفحات المئة الأولى فلن تفهم الرواية على نحوٍ صحيح.
اسم الوردة قالب روائي تاريخي
قد تكتشف من قراءة “اسم الوردة” أنها ليست رواية عادية من حيث الجهد المبذول في الكتابة، وأنها مع كونها رواية هي أيضًا جرعة معرفية ضخمة، وأنك لست أمام محض سرد بل بحث علمي وفلسفي ضخم للغاية ودراسة وبحث وتنقيب، ثم الاجتهاد الشخصي للكاتب فوق ذلك كله، و ستجد نهرًا من المعلومات والأخبار والحوادث والأسماء والتواريخ، بحيث يتعجب القارئ من حجم الطاقة التي بذلها المؤلف في كتابتها لكي يضع بين يديه صورة دقيقة وصادقة ومتكاملة الجوانب للمكان والزمان الذي تدور فيه الأحداث، دون أن يفوته الاستشهاد بأفكار العلماء المسلمين وذكر مكتبات بغداد والأندلس وغيرها، وكيف تعلم منها المسيحيون كثيرًا من العلوم والآداب والفلسفة، دون أن يمنعهم ذلك من اعتبار مؤلفيها المسلمين كفارًا لأنهم لا يؤمنون بألوهية السيد المسيح.
الأمر داخل الدير لا يتعلق فقط بالمعلومات والأفكار والمسائل الجدلية والتواريخ، بل وبالشفرات والطلاسم والسحر والغموض، وقد جاء في وصف ما في اللوحات والتماثيل داخل الكنيسة: “ومخلوقات بأذناب عدة ومسوخ كثيفة الشعر وسمندلات وحيَات قَرناء وثعابين برمائية وحيّات ملساء وذوات رأسين مسننة الظهر، وضباع وقنادس وأوزاغ وتماسيح وحيوانات مائية ذات قرون منشارية، وضفادع وعنقاوات وقردة وقردوحات ومسوخ مهق ووحوش مانتاكورة، ونسور ومخلوقات تشبه الإنسان وسراعيب وتنانين وبوم ومليكات، ومتفرعات، ويافرات وأشباح التين وعقارب وحوتيات وأشياق وعظاءات خضراء وأخطبوطات وسلاحف”.
من البديهي أن الإثارة والبراعة الأدبية والتوابل الروائية والخلطة السردية التي يسيل لها لعاب القارئ لا تصنع وحدها رواية ناجحة للغاية أو رواية خالدة، ورواية “اسم الوردة” إلى جانب تميزها بهذه العناصر التشويقية فيها كذلك تلك المزايا التي يشتهر بها الأدب المستمر أو الذي وجد ليبقى، فهي جادة في كشف الفساد وسبر أغوار النفس البشرية وألاعيبها، كما أنها تتناول الماضي وهي تلقي بظلاله على الحاضر، ذلك لأنها تنتقد الفساد وتفضح الكذب والتعصب والتزييف، وكلها من العيوب الدائمة في النفس البشرية لا تختفي بانقضاء عصر أو زمان.
ذلك كله في سلسلة من الأحداث المثيرة والغامضة التي تضفي المتعة وتزيد الإثارة، ولا يجب أن نغفل عن حقيقة أن كثيرين من القراء تكفيهم المتعة التي يجدونها في الفكر والفلسفة وحدهما والرواية عامرة بهما، لكن اشتمالها أيضًا على الإثارة والغموض وكثير من المفاجآت يضاعف متعة القراءة حتى عند ذلك القارئ المثقف.
وللحديث بقية…
مقالات ذات صلة:
كيف نصنع بالتفكير واقعاً مغايراً داخل المجتمع
تحولات الجسد في رواية لحن الصباح
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا