استهلك حتى الموت! الشركات العالمية والركض خلف السعادة!
بعد المؤتمر الصحفي الأخير لشركة آبل””apple –أحدى الشركات الرائدة في مجال الالكترونيات الأمريكية- والتي أعلنت فيه عن مواصفات هاتفها الجديد، وقد أطلقت شركة منافسة وهي شركة هاواوي”Huawei” الصينية حملة دعائية تسخر فيها من منافستها؛تضمنت مثلا إرسال دعوات مرفق معها سلة فاكهة وعصائر طبيعية للصحفيين لحضور مؤتمرها الصحفي القادم، وقد خلت السلة من التفاح وكتب على الدعوة لا تفاح اليوم في إشارة لشركة”apple”، وأرسلت سيارات خاصة بالشركة تقوم بتوزيع العصير مجانا على المنتظرين أمام متاجر “آبل” في انتظار وصول الآيفون الجديد، طبعا ما عدا عصير التفاح!
كذلك قامت بإرسال مندوبين لطوابير الانتظار ببطاريات شحن مصحوبة برسالة “سوف تحتاج إليها” في إشارة لضعف بطاريات الآيفون الجديد.
والحملة مستمرة!
لاقت تلك الحملة التسويقية اهتماما كبيرا من الجمهور العربي الذي تابعها بشغف، متتبعا تفاصيلها محللا نوايا شركة”هاواوي Huawei ” من حملتها.
يشيد الكثيرون بالإبداع التسويقي وانتهاز الفرص.
شغلت حملة “هاواوي” منصات التواصل الاجتماعي كذلك بين تحليل الحملة، ومقارنة شركات التكنولوجيا الكبرى بعضها ببعض.
هذا الاهتمام الكبير من قِبلنا يحتاج للتأمل حقا.
لماذا نتابع أخبار ومؤتمرات تلك الشركات الكبرى بكل هذا الاهتمام؟ ولما نترقب آخر إصداراتها بكل هذا الشغف ؟
قبل محاولة الإجابة عن هذا السؤال، نعود خطوة للوراء.. ما الذي تمثله لنا تلك الأجهزة؟
أحدث إصدارات أجهزة الهواتف المحمولة أصبحت سببا لسعادة الكثيرين، فهي علامة رقي وتحضر وتذكرة دخول لعالم الرفاهية الماديّة الممتع.
صارت غاية التعب وبذل المجهود في العمل من أجل ادخار المال الكافي لشرائها، ثم ادخار مال أكثر يكفي للإصدار الأحدث ، ثم تقوم الشركات المصنعة بعمل حملات دعائية وتسويقية ضخمة ومؤتمرات صحفية تخبرنا فيها أن الإصدار الأحدث مما نمتلكه بالتأكيد سيجعلنا أسعد وسيجعل حياتنا أسهل وأكثر رفاهية، ثم تستمر أبحاث الشركات لتطل علينا بالإصدار الأحدث الذي بالتأكيد لن نستطيع أن نكمل حياتنا دونه!
وتستمر الإصدارات، ونحن ندور في تلك الدائرة ولا نخرج منها؛ إذ ما الذي يدفع تلك الشركات للتوقف طالما كانت قادرة على الاستمرار في ظل منافسة السوق الشرسة؟
هي بالفعل تحقق أرباح مادية خيالية وهو ما تطمح إليه، وتسيطر على عقول وقلوب معجبيها!
نحن الذين نحتاج لتأمل حالنا عن قرب أكثر من هذا، تستنزفنا دائرة الجرى وراء الإصدار الأحدث وتستهلك طاقتنا وأفكارنا وطموحنا ووقتنا، لا تترك لنا متسعا للتفكر في حياتنا، الغاية منها وطريق السعادة الحقيقي فيها والمبادئ والمعايير التي تحكمنا فيها صحيحة هي أم خاطئة تحتاج للمراجعة؟
لا تترك لنا متسعا للتفكر في كيفية قضاء حياتنا، للتفكر في أحبابنا وكونهم أولى بنا نحن ولحظاتنا معهم أهم بالنسبة لهم من عمرنا الذي نقضيه نكدح لكي نوفر لهم تلك الأجهزة!
ندور في دائرة الاستهلاك ثم استهلاك الأحدث ثم استهلاك الأحدث منه وهكذا.
باتت سعادتنا في الذهاب لأماكن التسوق وفي الشراء والشركات الكبرى تنفق الملايين لترسخ تلك الفكرة في أذهاننا، أننا لن نكون سعداء إلا باقتناء منتجاتهم، وأن استمرارنا في حياتنا-ربما- مشروط بشراء تلك المنتجات.
انصرفنا عن أنفسنا وعن المعاني الحقيقية لحياتنا وسلمنا أنفسنا للاستهلاك! والرابح الوحيد في تلك العملية هي الشركات التي تتضاعف قيمتها السوقية وتحقق أرباحا هائلة وتزداد أرصدتها البنكية يوميا!
اختزال سعادتنا في الاستهلاك والشراء والجري وراء الموضة وأحدث الإصدارات هو للأسف بعد عن حقيقتنا وهويتنا.
تعريف السعادة بامتلاك أكبر قدر من المنتجات الاستهلاكية والتمتع بالرفاهية المادية يتجاهل حقيقة؛ أن الإنسان لا تسعده فقط الماديات، فكما يحتاج للطعام والشراب وسبل الحياة المادية يحتاج أيضا لأن يكون لحياته معنى وقضية يسعى لأجلها، يحتاج لأن يتعلم ويرتقي معرفيا ويكتسب الأخلاق الفاضلة، يحتاج لأن يحيا في مجتمع فاضل وينتمي لأسرة تحتويه وتعينه ولأن يكون لديه مجموعة أصدقاء يتوافقون معه في أفكاره وتوجهه في حياته.
يستطيع الإنسان التخلي عن كثير من مظاهر الحياة المادية المترفة ويكتفي منها بالقليل، لكنه يقدم على الانتحار إذا ضاع إحساسه بمعنى حياته وقيمتها، وإذا سيطر عليه الإحساس بعبثية سعيه فيها!
حقيقة الإنسان المعنوية تجعل سعادته الحقيقية لا في الإصدار الأحدث من أجهزة الهاتف المحمول أو السماعات اللاسلكية، لكنها في تلبية احتياجات روحه والانتباه لها.
لذلك فإن الاستمرار في الجري وراء الاستهلاك واعتباره هدفا وغاية يحيا من أجلها الإنسان هو جري في الطريق المعاكس لسلامنا النفسي واستقرارنا في الحقيقة، والرابح الوحيد هنا هم أصحاب رأس المال!
وإذا كان صرف الوقت والجهد والمال في متابعة أحدث الصيحات يُرهق الجميع ويبدد طاقة الإنسان فإن نمط الحياة هذا بالتأكيد سوف يكون أكثر إرهاقا للمجتمعات الفقيرة! وهو ما يعبر عنه د.جلال أمين في قوله:” عندما رأيت لأول مرة منذ سنين كثيرة سيارة أمريكية فارهة الطول تسير في الشوارع الضيقة بإحدى العواصم العربية وسط ازدحام شديد، ورجال ونساء يحاولون عبور الشارع من أي مكان وبلا ضابط، والباعة المتجولون يسدون أمامهما الطريق إذ لا يجدون أمامهم مكانا آخر مناسبا لبيع بضائعهم، ثم رأيت نفس النوع من السيارات الأمريكية تسير في الطرق الواسعة والسريعة في لوس أنجلوس، فإذا بهذه السيارات الفارهة تسير بسهولة في بلادها، ودون أي عائق، بدا لي أن هذا المجتمع الاستهلاكي في بلادنا شيء بالغ القبح، صحيح أن المجتمع الاستهلاكي في أي بلد جدير بإثارة النفور ولكنه جدير بإثارة نفور أشد بكثير عندما نراه في مجتمع فقير”
من أجل ذلك نستغرب انشغالنا بمتابعة حملة هاواوي وآبل بكل هذا الشغف والاهتمام بالتحليل والرصد في الوقت الذي تكون فيه أرباح واحدة فقط من تلك الشركات تكفي للقضاء على مشكة الفقر في عدة بلدان!
ولا تزال الشركات الكبرى تجتهد في حملات الدعاية والتسويق وتنفق الملايين لإقناعنا بأننا-رغم فقرنا- لابد أن ندفع عشرات الآلاف من أجل شراء الإصدار الأحدث من منتجات يمكننا الاستغناء عنها ببساطة!
إذا كنا فعلا نبحث عن السعادة الحقيقية؛ فإن الاستمرار في الجري وراء الموضة لن يحققها لنا!
اقرأ أيضًأ:
ما صحة ما توصل إليه داروين في نظرية التطور ؟
كيف تصنع عقلاً مغيباً ؟
الفيسبوك وإخواته – الحرب غير المعلنة بإستخدام وسائل التواصل الإجتماعي