اسأل فيلسوفًا: تأملات في فلسفة الشوارع!
على الرغم من أنه لم ينخرط في العمل السياسي، فكتاباته تُظهر أنه كان رجل دولة من الطراز الأول! هكذا كتب «ديوجانس اللايرتي» (Diogenes Laertius) في السيرة الذاتية لأفلاطون. كان «أفلاطون» مُنظرًا سياسيًا، وكان مهتمًا دائمًا ونشطًا بشؤون الدولة. لم تكن الأكاديمية التي أنشأها خارج أسوار مدينة أثينا محض معهدٍ للأبحاث، بل قدَّمت أيضًا محاضرات عامة، وكان الهدف منها تدريب رجال الدولة المستقبليين ومستشاريهم وكذلك الفلاسفة. ولم تكن كتابة أفلاطون لمحاوراتٍ مثل «الجمهورية» بدافع الحث على التفكير والمناقشة فقط، بل أراد أفلاطون من قارئيه أن يغيروا حياتهم، على المستوى الفردي والجماعي.
في هذه المهمة تأثر «أفلاطون»، بالطبع، كثيرًا بمُعلمه وصديقه المحبوب «سقراط»، الذي كان يتجول في الأسواق وصالة الألعاب الرياضية في أثينا، ويشتبك مع الأفراد الراغبين وغير الراغبين في النقاش بخصوص كيفية عيش حياة جيدة، إلى جانب حواراته عن ماهية الفضائل ودورها. وكان لسقراط نفسه أسلافه: فقد بدأ تقليد فلسفة الشوارع في الغرب على ساحل تركيا الحديثة، عندما حاول «هيراقليطس» (Heraclitus) إقناع مواطني «أفسس» (Ephesus) بأن كل شيء يتدفق، وأنك «لا تستطيع أن تنزل النهر ذاته مرتين». ومنذ جذورها اليونانية القديمة، ارتفعت حظوظ فلسفة الشوارع في الشرق والغرب على حدٍ سواء، وتراجعت وفقًا للمناخ السياسي والحالة الثقافية العامة (أعني بفلسفة الشوارع: الفلسفة خارج نطاق المجلات الأكاديمية والكتب وقاعات المؤتمرات والمحاضرات الجامعية).
الآن، أصبحت الحاجة مُلحة لفلسفة الشوارع، سواء على المستوى الدولي أو على مستوى عالمنا العربي: أزمة المناخ والتنوع البيولوجي، غزو أوكرانيا، كوفيد-19، التقشف وخفض الإنفاق، التفرقة العنصرية ومعاناة السود، صعود القوميات والاستبداد والتهديدات الشرسة للديموقراطية (إن وُجدت)، الجرائم الإسرائيلية في غزة، مواقع التواصل الاجتماعي والهجمات المتتالية على مفاهيم الحقيقة والصدق، تطورات الذكاء الاصطناعي ونُذر الخطر الوجودي، اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، الإعلام وتزييف الوعي، المتاجرة بالأديان والروحانيات، إلخ. تثير هذه الظواهر كلها قضايا ملحة تتعلق بالتحليل المفاهيمي، وقضايا مغزى الوجود والحياة، والحجج الأخلاقية والمعرفية التي تُعد الفلسفة تخصصًا مناسبًا لمعالجتها معالجة مثالية.
ربما كان من الضروري أن يبذل الفلاسفة، أو الباحثين والمتخصصين في الفلسفة، جُهدًا أكبر لتعريف الناس بطبيعة عملهم، ونوعية المشكلات التي يُعالجونها، وكيفية ارتباط هذه المشكلات بواقع الحياة اليومية، ليس فقط عن طريق المشاركة في المحاضرات العامة، أو كتابة المقالات التثقيفية للعامة، أو بث مقاطع الفيديو على اليوتيوب، أو نشر كُتب تبسيط الفلسفة، وإنما بالتقاء الناس مُباشرة في الشوارع، والتحدث معهم عما يؤرقهم من تساؤلات ومشكلات، تمامًا كما كان يفعل «سُقراط». تلك مسؤولية أخلاقية ومجتمعية يجب أن تتحملها أقسام الفلسفة في الجامعات المختلفة كافة: أن تُبرر سبب استحقاق الخبرة الأكاديمية لدافعي الضرائب، أو لأية جهة تمويل (إن وُجدت)، وإلا كانت هذه الأقسام بمنزلة جُزر منعزلة يعيش فيها عاطلون عن العمل! صحيح أن كثيرًا من الفلاسفة وأعضاء هيئة التدريس غير مؤهلين للعمل العام، أو حتى لمخاطبة العامة في النطاق الضيق، لكن يجب أن ينخرط بعضهم في هذا العمل، على الأقل لبعض الوقت، مع تدريبهم على ذلك إن اقتضى الأمر!
إحدى التجارب الرائدة في هذا الصدد تلك التي أجراها «إيان أولاسوف» (Ian Olasov) (خريج مركز الدراسات العُليا بجامعة المدينة بنيويورك City University of New York، وحاليًا أستاذ الفلسفة المساعد بجامعة نيويورك New York University) منذ سنة 2016 بدعمٍ من الجمعية الفلسفية الأمريكية، إذ أنشأ مع مجموعة من أساتذة الفلسفة المحليين وطلاب الدراسات العُليا جناحًا (كُشكًا أو خيمة) في منطقة سوق المزارعين في نيويورك، مع لافتة كُتب عليها «اسأل فيلسوفًا» (Ask a Philosopher)، بهدف حث المارة على المشاركة في نقاشات فلسفية بشأن عدد من التساؤلات المتدرجة من العُمق إلى البساطة. داخل الكُشك، وُضعت طاولة مغطاة بمفرشٍ أسود وعليها ثلاثة أوعية، وعاء به عدد من الأسئلة الفلسفية الكلاسيكية (مثل: هل لدينا إرادة حرة؟ لماذا يوجد شيء بدلًا من لا شيء؟)، ووعاء به عدد من التجارب الفكرية التي يُمكن فتح الحوار منها، ووعاء به حلوى على سبيل الجذب والمرح. الهدف إغراء الناس ببدء النقاش، سواء من تلقاء أنفسهم عما يشغلهم من تساؤلات، أو بالاختيار من الأوعية.
حققت التجربة نجاحًا كبيرًا، وتطرق النقاش إلى موضوعات مثل الإدراك، الوعي، المنطق، العدالة، الحرب، إلخ. بل لقد دخل زوار كثر في مناقشات طويلة وجادة فيما بينهم، وتنوعت أعمار السائلين من الأطفال إلى الشباب والكهول، ومن مختلف المهن والتخصصات. لقد بدا واضحًا أن الأسئلة التي يركز عليها الفلاسفة ذات أهمية كبيرة للجميع، وليس فقط للأكاديميين، وأن ثمة حاجة بالفعل إلى دمج التفكير الفلسفي في الخطاب اليومي. ذلك كله كان له مردوده الإيجابي من جوانب عدة، منها أولًا تعميم التجربة في عدد من الولايات الأمريكية بالتزامن مع اجتماعات الجمعية الفلسفية الأمريكية، إذ أقيمت أكشاك مماثلة في المتاجر، محطات مترو الأنفاق، الحدائق العامة، معارض الكتب، مهرجانات الشوارع، ساحات الجامعات، وغيرها. ومنها ثانيًا نشر «إيان أولاسوف» لكتابٍ من وحي حواراته وزملائه مع الناس في الشوارع، تحت عنوان «اسأل فيلسوفًا: إجابات عن الأسئلة الأكثر أهمية وغير المتوقعة» (Ask a Philosopher: Answers to Your Most Important and Most Unexpected Questions) (2020)، مسح فيه مجموعة واسعة من الموضوعات الفلسفية مقدمةً منهجية للفلسفة التطبيقية في الإطار العام، وقدَّم فيه إجابات عن أسئلة الحياة الواقعية التي تدور في أذهان الناس، من الفلسفية العميقة إلى التافهة، من قبيل: هل الناس طيبون بالفطرة أم سيئون؟ هل من الجيد أن تقتني سمكة أليفة؟ هل من الجيد أن يكون لديك أطفال؟ هل اللون إحساس شخصي؟ ماذا لو استعمر البشر المريخ؟ هل الكاتشب عصير؟ هل ثمة حياة بعد الموت؟ هل يجب أن أعطي المال للمشردين؟ وغير ذلك من التساؤلات التي قد تُزعج رجل الشارع. لقد تناول كل سؤال من وجهة نظر فلسفية، لكن بأسلوب ممتع وفي متناول الجميع!
من المردودات الإيجابية أيضًا، نجاح «أولاسوف» وزملائه في كبح جماح الأسطورة الخبيثة السائدة في الثقافة الشعبية، تلك التي مؤداها أن الفلاسفة محض مجموعة من الأشخاص المدعين الذين يقضون وقتهم في كتابة مصطلحات متقنة بخصوص أسئلة مقصورة على فئة معينة لا علاقة لها بالحياة اليومية، وكذلك تبيان مدى كون البحث الفلسفي قابلًا للتطبيق وواسع النطاق وشيقًا لأولئك الذين يهابونه، وأن الفلاسفة وغير الفلاسفة على حد سواء يشتركون في الفضول الطبيعي بخصوص الأسئلة الأساسية للحياة!
من جانبه، يُقدم «لي ماكنتاير» (Lee McIntyre) (وهو زميل باحث في مركز الفلسفة وتاريخ العلوم بجامعة بوسطن) وصفًا شيقًا لمشاركته في التجربة على النحو التالي:
ربما كانت اختيارات الحياة هي التي دفعتني إلى الجلوس في كشك تحت لافتة كُتب عليها «اسأل فيلسوفًا» عند مدخل مترو أنفاق مدينة نيويورك. لقد اشتغلت بالبحث الفلسفي لمدة خمسة عشر عامًا، لذا وافقت بسهولة على الانضمام إلى زميلي «إيان أولاسوف»، عندما طلب متطوعين للانضمام إليه. كان هذا جزءًا من أحدث جهود التوعية العامة التي باشرتها الجمعية الفلسفية الأمريكية، التي كانت تعقد جانبًا من اجتماعها السنوي في شهر يناير في الشارع. لقد دَرَّست من قبل، لكن بدا لي هذا غريبًا، هل سيتوقف أحد؟ هل سنمر بلحظاتٍ عصيبة؟ جلست بين «إيان» وامرأة رائعة تدرس الفلسفة في المدينة، معتقدًا أنه حتى لو قضينا الوقت كله في التحدث مع بعضنا، فسيكون ذلك شيئًا جيدًا!
فجأة توقفت امرأة، للوهلة الأولى كان من الصعب معرفة ما إذا كانت بدوية مفلسة أو أستاذة فخرية، لكنها سرعان ما خلعت قبعتها ووشاحها وأتت إلينا وقالت: «أنا في أواخر الستينيات من عمري، لقد خضعت للتو لعملية جراحية كانت تهدد حياتي، لكنني اجتزتها». ثم أظهرت لنا ندبة بارزة على رقبتها وسألت: «لا أعرف ماذا أفعل بقية حياتي. لقد حصلت على درجة الماجستير، وأنا الآن متقاعدة ومطلقة وسعيدة بذلك، لكنني لا أريد أن أهدر مزيدًا من الوقت، فهل يمكنكم المساعدة؟».
رائع، طلبنا منها واحدًا تلو الآخر أن توضح موقفها، وقدمنا لها بعض النصائح، مع التركيز على فكرة أنها هي الوحيدة التي يمكنها أن تقرر ما الذي يمكن أن يعطي لحياتها معنى. اقترحت عليها أن تتواصل مع آخرين لديهم الهواجس ذاتها، ثم دخلت في نقاشٍ أطول مع «إيان».
في الوقت ذاته، اجتمع حشدٌ من الناس. في البداية اعتقدت أنهم كانوا يستمعون فقط لنقاشنا مع السيدة، لكن تبين لي أن لديهم أيضًا مخاوفهم الوجودية الخاصة، مجموعة من المراهقين انخرطوا في النقاش مع الفيلسوف الذي عن يميني. ابتعدت امرأة شابة (عرفت بعد ذلك أنها طالبة في السنة الثانية في الجامعة) عن المجموعة بقلقٍ بالغٍ متسائلة: «لماذا لا أستطيع أن أكون أكثر سعادة في حياتي؟ لم أتجاوز العقد الثاني من عمري، ومن المفترض أن أكون سعيدة، لكنني لست كذلك. هل سأظل هكذا؟».
كان دوري في الإجابة. قلت: «لقد أظهرت البحوث الحديثة أن ما يجعلنا سعداء تحقيق أهدافنا الصغيرة هدفًا تلو الأخر، إذا فزت مثلًا بجائزة، فمن المحتمل أن تعودي إلى خط سعادتك الأساسي في غضون ستة أشهر، لا يمكنك تحقيق السعادة والبقاء سعيدة فقط، بل عليك أن تسعي لتحقيقها». ردت قائلة: «لذا أنا عالقة؟». قلت: «لا، دورك في هذا كبير، عليك أن تختاري الأشياء التي تجعلك سعيدة واحدًا تلو الآخر. وقد ثبُت ذلك منذ أرسطو وصولًا إلى البحوث النفسية المتطورة: السعادة رحلة، وليست وجهة»!
أشرق وجهها بابتسامة صغيرة، في حين كان أصدقاؤها ما زالوا في حيرة بشأن ما إذا كان اللون خاصية أساسية أم ثانوية. لقد شكرونا وغادروا. وفجأة، بدت المرأة الأكبر سنًا التي توقفت في البداية راضية عما قاله لها «إيان»، واستأذنت وانصرفت.
في وقتٍ لاحق، وبينما كان الوضع هادئًا، كان بعض المارة يشيرون لنا أو إلينا ويبتسمون، والتقط عدد منهم بعض الصور. لا بد أن المشهد كان غريبًا: ثلاثة فلاسفة يجلسون في صف واحد تحت لافتة «اسأل الفيلسوف»، وسط عربات الخبز وأكشاك المجوهرات!
في فترة الهدوء فكرت للحظة فيما حدث للتو، لقد جاء إلينا مجموعة من الغرباء، ليس للسخرية بل لأنهم كانوا يحملون بعض التساؤلات الفلسفية الحقيقية التي ظلت دون إجابة لفترة طويلة. إذا كنت في أزمة روحية اذهب إلى شيخك، وإذا كانت لديك أزمة نفسية فقد تبحث عن معالج نفسي، لكن ماذا تفعل إذا كنت لا تعرف تمامًا المكان المناسب لك في هذا العالم وتعبت من تحمل هذا العبء بمفردك؟
ثم حدث أن رأيتها، مُحاورة من شأنها أن تكون أصعب سائلٍ لي اليوم. كانت تبلغ من العمر ست سنوات تقريبًا، وكانت تُمسك بيد والدتها وتشرأب لتحدق بنا. توقفت والدتها، لكن الفتاة ترددت. بادرتها: لا بأس، هل لديك سؤال فلسفي؟ ابتسمت الفتاة لأمها، ثم تركت يدها لتتجه إلى الكشك. نظرت إليّ مباشرةً وقالت: كيف أعرف أنني حقيقية؟
أعادني سؤالها إلى زمن دراستي، هل ينبغي أن أتحدث عن الفيلسوف الفرنسي «رينيه ديكارت»، الذي اشتهر باستخدام تأكيد الشك ذاته دليلًا على وجودنا، بعبارة «أنا أفكر، إذن أنا موجود»؟ أم أذكر الفيلسوف الإنجليزي «جورج مور» ومقولته الشهيرة «هنا يد وهنا اليد الأخرى» دليلًا على وجود العالم الخارجي؟ أم أشير إلى فيلم «المصفوفة» (The Matrix) الذي افترضت أنه نظرًا لصغر سنها لم تشاهده؟ لكن بعد ذلك قفزت الإجابة إلى ذهني، تذكرت أن الجزء الأكثر أهمية في الفلسفة تغذية إحساسنا بالدهشة. قلت: أغمضي عينيك. وفعلت، حسنًا: هل اختفيت؟ ابتسمت وهزت رأسها ثم فتحت عينيها. تهانينا: أنت حقيقية! ابتسمت ابتسامة عريضة وسارت نحو والدتها التي نظرت إلينا وابتسمت. ربت زملائي على كتفي وأدركت أن وقتي قد انتهى. أعود إذًا إلى المؤتمر لمواجهة بعض الأسئلة الأسهل عن موضوعات مثل الفلسفة الأكاديمية ومسؤولياتها في عالم ما بعد الحقيقة!
انتهى حديث «ماكنتاير»، لكن مبادرة «اسأل فيلسوفًا» أثارت لديَّ فضول تجربة فكرية: ماذا لو طبقنا المبادرة في شوارعنا العربية؟ ماذا لو أقمنا أكشاكًا للفلسفة في الأماكن العامة؟ وماذا لو عقدت الجمعيات الفلسفية العربية بعض جوانب اجتماعاتها في الشوارع لمشاركة العامة همومنا الفلسفية؟ هل نحن مؤهلون لذلك؟ هل لدينا البضاعة الفكرية التي نستطيع تسويقها؟ وهل ستسمح لنا حكوماتنا ببث الحكمة (إن وُجدت) في الشوارع ومناهضة عمليات تجريف الوعي التي تتحقق إعلاميًا على مدار الساعة؟ من المؤكد أننا نشارك الناس عمومًا تلك المخاوف الوجودية والتساؤلات المعرفية والأخلاقية، لكن مشكلاتنا في العالم العربي تختلف قطعًا: التخلف، التبعية، المظهرية، الفقر، الفساد، الازدواجية الغربية، الخيانة، إلخ. فما الذي يمكن أن نتوقعه؟ الإجابة متروكة لك عزيزي القارئ!
مقالات ذات صلة:
واقع الفلسفة الإسلامية ومستقبلها
بوئثيوس بين عزاء الفلسفة وعجلة الحظ!
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا