مقالات

ارتجاع العقل!

ارتجاع العقل –كما أتصوره– هو حالة شبيهة بحالة ارتجاع المريء؛ تلك الحالة التي يعاني منها كثرة من الناس إثر تناولهم الطعام، لا سيما إن كان هذا الطعام دسمًا أو كانت كميته كبيرة، إذ سرعان ما يرتد الطعام إلى المريء محملًا بعصارة المعدة الهاضمة شديدة الحموضة، ليُسبب ما يُعرف طبيًا باسم حُرقة الفؤاد.

حينئذ يشعر المرء وكأن نارًا قد اشتعلت بصدره، لا يخفف من حدتها إلا تناول مضادات الحموضة، وتجنب الاتكاء أو الاستلقاء على الظهر، بل إبقاء الجسم في وضع غير أفقي ريثما تتمكن المعدة من هضم الطعام ونقله إلى الأمعاء.

ولئن كان الطعام هو غذاء الجسد، يهضمه ويتمثله فيحيا ويقوى ويُنتج، فإن الأفكار هي غذاء العقل، يهضمها ويتمثلها فيحيا ويقوى ويُنتج بالمثل، ومن ثم يتعرض العقل في كثيرٍ من الأحيان –مثلما يتعرض الجسد– لحالات عُسر الهضم والانتفاخ والارتجاع، خصوصًا إن كانت الأفكار التي يتعاطاها تتسم بالقوة أو الضخامة، أو كانت من نوعٍ جديدٍ عليه لم يألفه من قبل ولم يسبق له أن مرَّ بتجربة هضمه.

أمثلة متنوعة

العقل الأوربي

الأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة، أذكر منها تحديدًا رفض العقل الأوربي إبان بدايات العصر الحديث لنظرية «كوبرنيقس» القائلة بدوران الأرض حول الشمس الثابتة، وهي النظرية التي حوكم «جاليليو» بسبب تبنيه لها من قبل المؤسسة الدينية ذات النفوذ الصارخ في ذلك الوقت، والتي رأت فيها إهدارًا لمركزية الإنسان في الكون كما أقرتها الكنيسة وأعلنتها من قبل نظرية «بطليموس» القائلة بمركزية الأرض وثباتها ودوران الشمس حولها.

لم يستطع العقل الأوربي وقتئذ هضم النظرية بسهولة، بل ظل يكابد ارتجاعًا عقليًا لها حتى استقرت لديه نظريًا وتجريبيًا، ليضيف إليها بعد ذلك حقيقة دوران الشمس ذاتها حول مركز المجرة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك
الفيلسوف اليوناني “أناكساجوراس”

كذلك يحفل تاريخ الفكر الفلسفي بأمثلة لفلاسفة قُتلوا أو تم نفيهم من أوطانهم –طوعًا أو كرهًا– جرَّاء ارتكابهم لجريمة التفكير بشكلٍ مختلف، أو بالأحرى جرَّاء إطلاقهم لأفكار جديدة واجه العقل السائد صعوبة بالغة في هضمها رغم صحتها،

ومن هؤلاء –على سبيل المثال– الفيلسوف اليوناني «أناكساجوراس» Anaxagoras، الذي ابتكر عدة نماذج تفسيرية للأجرام السماوية وحركاتها، وأعلن أن الأرض كروية الشكل، وأن القمر جسمٌ صلب متوهج يعكس ضوء الشمس، وبه سهول وجبال وأخاديد، وأن الشمس كانت كتلة حجرية مشتعلة، وأن ثمة خسوفًا للقمر يحدث إذا توسطت الأرض بينه وبين الشمس، وثمة كسوفًا للشمس إذا توسط القمر بينها وبين الأرض.

في ذلك الوقت كانت هذه أفكارًا راديكالية تُناقض الظن الشائع بألوهية الشمس والقمر، ولذا حُوكم «أناكساجوراس» بتهمة المعصية، تمامًا كما حدث لاحقًا مع «سقراط»، وحُكم عليه بالإعدام من قبل محكمة كانت معنية بفلسفته بقدر اهتمامها بدائرته السياسية، فاضطر إلى الفرار من أثينا إلى «لمبسكوس» Lampasacus مكتسبًا قوت يومه من تدريس الفلسفة.

وقس على هذه الحالة كثرة من فلاسفة العصور القديمة والوسيطة والحديثة، وهو ما عبر عنه «جلال الدين السيوطي» بقوله: «ما كان كبيرٌ في عصرٍ قط إلا كان له عدوٌ من السفلة، إذ الأشراف لم تزل تُبتلى بالأطراف»!

في مجتمعاتنا العربية المعاصرة

أما في مجتمعاتنا العربية المعاصرة فيبدو أن حكوماتها قد أشفقت على شعوبها من مثل هذه الحالات المؤلمة، فمنعت عنها كافة الأطعمة الفكرية الجيدة اللازمة لسلامة العقل وقوة الحياة، كالحرية، والديموقراطية، والعدالة، والكرامة، والإنسانية، إلخ، لتُلقي لها ببقايا أطعمة فكرية رديئة تترك العقل هزيلًا في جسد مُنهك لا يقوى على مجاراة الآخرين.

لم يتذوق العقل العربي طعم حرية التفكير في ظل هذا التوجه لعقودٍ طويلة خلت، فبات يألف طعم العبودية ويفتقد القدرة على التمييز بينهما، ولم يسبق لعقله أن خاض تجربة هضم الكرامة والعدالة، فبات يخشى الاقتراب منهما أو التطلع لتذوقهما، وصوَّرت له حكوماته مرارة الديموقراطية واستحالة هضمه لها، فابتعد عنها مرغمًا، مؤثرًا تجنبها كي لا يعاني مرارتها!

لقد أطبقت الأنظمة الحاكمة في العالم العربي أيديها على ثمار الحرية والديموقراطية وغيرها، وباعدت بينها وبين أفواه مواطنيها، لعلمها أنهم إن تذوقوها فلن يثنيهم شيء عن التهامها والاستمتاع بحلاوتها، بل وسيقوى العقل في جسد جديد، ويتلاشى الخوف في النفس المقهورة لتطالب بالمزيد، وحينئذٍ تتهاوى أقنعة الباطل أمام غضبة القوم!

اقرأ أيضاً:

سقراط وتهمة إهانة الآلهة 

نحو عهد أخلاقى جديد

أثر العقل الجمعي على السلوك الفردي

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية