مقالات

ادمان التطبيع

تتكاثر الدراسات والأبحاث والمقالات التي تكلمت عن التطبيع والبعض أشاد والبعض شجب. وسيظل هذا الوضع مستعرًا طالما أن التغير في الرؤية لم يحدث وطالما جبنت الأقلام وشلت الألسن عن التكلم بالحق في وصف الحقيقة دون تدليس أو كذب. وفي هذا الطرح نحلل التطبيع كمبدأ اقتصادي ونوضح بإيجاز تأثيره في التفاعل مع المنظومة الاجتماعية المصرية والنتائج الثقافية والفكرية التي نتجت من هذا التفاعل وما ترتب عليها من نتائج ملحوظة على الساحة اليوم.

نبدأ بوصف التطبيع كمبدأ اقتصادي وهو فتح الأسواق والتعامل الاستثماري في مصر مع العدو الصهيوني. وهذا في أبسط صوره وأضيقها. حسنا، دخلت مصر هذه الإتفاقية في حالة ضعف اقتصادي. فالبلد خرجت من حروب كثيرة في العقدين السابقين والشعب منهك ومتعب اقتصاديًا نتيجة للحمل الاقتصادي الذي فرضته عليه هذه الحروب. أما العدو الصهيوني فهو يتمتع بدعم صهيوني عالمي من أكثر من قوة عالمية كبرى يجعل قيامه من أي نكبة اقتصادية أو ضغط أسهل بكثير. بل لا نجد في تاريخ هذه الدولة نكبات اقتصادية بالأثار والتبعات المتعارف عليها فالممول العالمي موجود ومتاح في أي وقت ليرسل المدد بكافة أنواعه.

في نفس الوقت فإن مصر خرجت من الحرب وقد خسرت كل التحالفات الاقتصادية القديمة بالأخص السوفيتية. ولسنا هنا للدفاع عن سياسات السوفيت ولكن ننظر من وجهة نظر اقتصادية بحتة أن السوفييت كانوا يمولون مصر اقتصاديًا بصور شتى. أما الأشقاء العرب فمهما بلغت مساعدتهم لم تكن لتبلغ حجم مساعدات السوفييت لتحل محلها أو حجم مساعدات الصهيونية العالمية لإسرائيل لتخلق جو من التكافؤ والتعادل. وبالتالي فمن الطبيعي وسط هذا العطش الاقتصادي المصري ومع عدم توفر أي فرص بمثل قوة وإغراء التطبيع مع إسرائيل أن يلجأ الاقتصاد والاستثمار المصري الذي قد جف ريقه ولهث وهلك من شدة التقشف والقيظ الاقتصادي إلى أن يشرب كوب المال البارد الصافي الذي يقدمه له العدو الصهيوني.

و في نظر المادية وعالم التجارة والمال فإن كل ما يتخذ من قرارات للحفاظ على الثروة مبرر ومسموح به. لأن في عالم المال والأعمال حب الدنيا والثروة يسيطر على الناس ويغلق أعينهم عن الحقيقة ويوسوس لهم ليبرر لهم كل قبيح وسيء لم يكونوا ليفعلوه في حالة ذهنية سليمة وطبيعية. هذه الحالة اليائسة التي وصل لها المصريون متوقعة وكان يجب أن يعمل لها ألف حساب. فالدين والقيم لم توجد لتنزع من الإنسان غريزة حبه لذاته وللرفاهية بل لتؤدبها وتروضها في إطار المسموح والحلال فلا تمتد عينها لما هو قبيح عقلًا وشرعًا. ومن هذا المنطلق النفسي برر الجيل الأول من المطبعين المصريين موقفهم بأن التطبيع الاقتصادي لا يعني بيع القضية بل هو تجارة فقط وفرصة لكسب المال ونستخدم هذا المال في مساندة الخير والقضية. أو أنه وضع مؤقت فقط أو جزئي حتى تتحسن الظروف

اضغط على الاعلان لو أعجبك

طبعًا هذا فيه جانب كبير من السذاجة الفكرية والتبرير الغير مقبول والتضليل. فمعروف أن النظام الصهيوني هو عدو بالمقام الأول وأنه لا يصرف ماله هباءًا أو عبثًا بل يعرف جيدًا كيف يستثمره فيما يفيده ويضمن بقاءه. ومن هنا كان بداية الإدمان، “إدمان الاقتصاد التطبيعي”. فما بدأ بصفقة مربحة استمر وزاد ليصل لطبع وأساس كبير لثروات وتجارات رجال الأعمال. وكلما أتى جيل جديد استزاد واسترسل أكثر في إدمانه لهذا المخدر الاقتصادي القوي.

و لما زادت الثروات زادت الاستثمارات وفتح مجال الإعلام الفضائي الحر. وفتح رجال أعمال التطبيع قنوات خاصة بدأت بداية بريئة ببرامجها اللطيفة وأحبها الناس ودخلت قلوبهم وتعلقوا بها وأصبحت وجبة أساسية في برنامجهم الترفيهي اليومي. هذه القنوات كانت بوق ومرسال العدو الصهيوني النائم والغير مفعل. هذا البوق يستخدم للدفاع عن مصالح النظلم الصهيوني وقت اللزوم والضرورة. أما في عموم الأوقات فهو بوق لطيف وظريف لا ينشر إلا نفس السياسات والأفكار التي تحافظ بدورها على بقاء العدو الصهيوني! فهو إذن بوق الغزو الفكري الذي يطبخ العقول ويشكلها بالصورة التي تجعله مستعدًا لتقبل توهين قضية المقاومة والدفاع عن فلسطين في أوقات المحنة.

لننظر للصورة الكبرى الآن. لديك اقتصاد وشركات ومؤسسات توفر الثراء والمال الكثير لأغلبية رجال أعمال مصر ويعمل عندهم ألوف مؤلفة من العمال والموظفين والإداريين على أساس عقود ومواثيق ومعاهدات مرهون فيها بقاء ضخ الأموال والمكاسب لهم ببقاء الكيان الصهيوني ومموليه. في العقلية المادية والنفعية يصبح العدو لهكذا مؤسسات هو من يقوض بقاء هذا الكيان الذي أصبح هو الكيان الحاضن والراعي الرسمي لهم هم أيضا الآن. وعليه فلتذهب قضية فلسطين للجحيم ولتذهب المقاومة الملعونة في “ستين داهية” وكما يقول الناس “أنا عايز أعيش”. وليعمل بوق الإعلام الصهيوني ليل نهار ليسمم العقول وينسف الأفكار والمعتقدات وليصرف الناس عن الدفاع عن القضية. ويذكرهم فقط بالدنيا وبمنافع التطبيع وكيف أننا سنخسر كل هذا المال وهذه الثروة وفرص العمل لو أغضبنا الإله الصهيوني الجديد.

هذا التحليل القاصر القصير يوضح مخلب واحد من مخالب وأنياب هذا الوحش الكاسر الذي لا يرحم. ولهذا كان يجب علينا أن نحتاط قبل أن نبدأ باستخدام هذا المخدر القوي الذي خدرنا وألهانا سنين في هلاوس المتعة والرفاهية فأفقنا على واقع الدم والألم. وهنا خارت عزيمتنا فلم نستطع مواجهة الواقع وحل مشاكلنا فطلبنا المزيد من المخدر الذي أدمناه باختيارنا لنجد هذ المرة أن تاجر المخدرات لا يطلب نفس الثمن بل تضاعف ثمن المخدر كما شاهدنا في الأفلام. فاليوم لا يعطينا العدو الصهيوني المخدر إلا مقابل المزيد من الذل والإهانة والخنوع والمهانة.

هذا التحليل يوضح أهمية الاقتصاد القومي الوطني الحقيقي القوي الذي يستطيع أن يحمي الإنسان الضعيف أمام شهوة المال من خيانة القضية. فالاقتصاد القوى يأتي دوره كعامل مساعد مهم للتربية العقلية السليمة والتعهد الأخلاقي القويم للفرد والمجتمع. هذا التعهد الفكري والأخلاقي والاقتصادي يحمي الأمة من إغراء الدجال الصهيوني وسحره ويخلق أمة مقاومة قوية تقف كالصخرة في وجه الطوفان قد تتأذي وينحر في جسدها وتتفتت منها الرمال الدقيقة لكن تبقى صامدة لا تخنع ولا تركع.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.

مقالات ذات صلة