مقالات

اخشوشنوا

اخشوشنوا، فإن النعمة لا تدوم، والغنى زائل لا محالة، والدنيا ستفنى بلا ريب، اخشوشنوا، فإن الطنافس ستبلى، والثريات ستخمد، والقناديل ستنطفئ، والترف سيُباد، والعمر سيفنى، والحياة ستنتهي، اخشوشنوا، فإن دوام الحال من المحال.

اخشوشنوا حتى تسمعوا أنات المعدومين، وآهات المقهورين، وهمهمات السائلين، وخفقات البائسين، وتضوُّر الجائعين، وتمتمات المروَّعِين، وتأتآت الغارمين.

اخشوشنوا حتى تروا دموع المحتاجين، وبكاء المنهكين، وهي تترقرق من شدة الفقر، وتسيل منهمرة من العوز، وهي تنظر إليك في ذلة وانكسار، منادية بلسان الحال: يا هذا ماذا فعلت لي ولأمثالي؟ وقد أكلت حتى شبعت، وطعمت حتى سمنت، ولبست فما أبليت، وكنزت فأربيت، وشربت حتى ارتويت، ولملمت فأبقيت، وجمعت فنمَّيت!

يا هذا ماذا فعلت لي؟ وقد أسرفت وبذَّرت، وخزَّنت فما تصدقت، وبنيت فاستطلت، وارتديت فتخيرت، ومشيت فتمايلت، وركبت فتكبرت!

يا هذا لماذا تتركني وتذهب؟!

قاتلك الله! أفلا ترى عوزي؟! ألم تشعر بِذِلَّتي؟ ألم تلحظ زَلَّتي؟ ألم تشاهد قلة حيلتي؟ يا هذا، انظر إليَّ، حدِّق فيّ جيدا، أدر وجهك نحوي، اقترب مني لترى نحول جسدي، وتمزق ثيابي، وتغضن وجهي، وتمزق حالتي، وضياع هيبتي، وتهاوي بزتي!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يا هذا لماذا تتركني وتذهب؟! لماذا تحول وجهك عني؟! هيا تعالَ، انظر إليَّ، نعم، انظر، فها أنذا، نعم هو، هو الذي تعرفه، بينما تغمض عينيك عنه، فلا تكذب نفسك، فأنت تراني، نعم تراني، لكن تخشى أن تبصرني، لعن الديان نفاقك!

انظر، اقترب، خبت، وخسئت، وخسرت، انظر، نعم، انظر، بل انظر إلى نفسك، كيف اكتنزت لحما، وامتلأت شحما، وتمرغت في الشواء، وتمايلت في الحلواء، بينما أعاني الشقاء، وأعيش في اللأواء!

انظر كيف تكنز من الأموال، وتخزن من الأطعمة ما يكفيك لشهور بل لسنين، وأنا، أنا لا أجد قوت يومي، بل انظر كيف يمرح أطفالك في الترف، ويتنعمون في السرف، بينما يتضور أطفالي من شدة الشظف، بل انظر كيف يرفل أولادك في الجديد من الثياب، بينما لا أجد لهم ورقة التوت التي تستر عوراتهم، وتؤمن روعاتهم!

يا هذا أفلا تعلم أن هؤلاء الأطفال سيدعون عليك وعلى أمثالك ممن منعوا زكاة أموالهم وحجبوا فضل صدقاتهم؟ ممن عاشوا ويعيشون لأنفسهم، قد تقوقعوا فيها، وعاشوا لها، ممن يتنعمون في شهواتهم، ويحيون لملذاتهم،

ممن أغمضوا أعينهم فلم يروا إخوانهم من المعوزين الذين لم يجدوا إلا السماء فاتجهوا إليها، والتحفوها، وإلى حشائش الأرض فالتهموها، وإلى الثرى فافترشوه، وإلى كدر البحر فشربوه، وقلوبهم تلعنكم، وصدورهم تدعو عليكم، وتتمنى لكم الموت المعجل، والهلاك المدمر!

لا تكونوا من هؤلاء

اخشوشنوا ولا تكونوا من هؤلاء المترفين، ولا أولئكم المبذرين، الذين إذا اشتهوا اشتروا، وإذا تمنوا اكتروا، وإذا احتاجوا أحضروا، وإذا تاقوا جلبوا، وإذا رغبوا صحبوا، وإذا ما فكروا هبُّوا، وإذا ما نادوا لُبُّوا!

يا هؤلاء اخشوشنوا حتى تصفو قلوبكم، وتحيا نفوسكم، وتتلألأ صدوركم، وتشفى ذواتكم، وترقى أناتكم، وحينها سوف تخترقون الحجب، وتزال لكم السُّتُرُ، وترفع عنكم السُّدُلُ، فلا يكون بينكم وبين السموات حجابا، ولا إلى الملكوت نقابا!

اخشوشنوا حتى تكونوا قاب قوسين أو أدنى، فتضرب لكم الدفوف، وتوضع لكم الصفوف، وتتهيأ لكم الجِنَان، ويدعو لكم الجَنَان، وينطلق بشكركم اللسان، فتسعدوا وتُسْعِدُوا، وحينها سيذكركم من في الأرض، ويرفعكم من في السماء!

اقرأ أيضاً:

النَّزيل

لا أحد يموت من الجوع

علموا أولادكم

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. محمد دياب غزاوي

أستاذ ورئيس قسم اللغة العربية- جامعة الفيوم وكيل الكلية ( سابقا)- عضو اتحاد الكتاب