اختزال التعقيد وضرورة حفظ الوجود
لا يخفى على الناظر المتأمل الوفرة المعلوماتية التي صرنا إليها، فالباحث عن المعرفة على المستوى الأكاديمي أو الجماهيري، صار لديه من مصادر المعرفة بخصوص الموضوع الواحد الشيء الكثير، فعلى المستوى الأكاديمي هناك كثير من البحوث، بصرف النظر عن قيمتها، وعلى المستوى الجماهيري هناك مصادر متنوعة للمعرفة من قنوات فضائية ووسائل تواصل اجتماعي ومواقع ومنتديات، وهذه الوفرة المفرطة للمعرفة كما أنها تنفع فهي في جانب من جوانبها تعطّل، إذ إنها تحتاج إلى تنقية ومتابعة يعجز عنها المرء على المستويين الأكاديمي والجماهيري، نظرا لأسباب كثيرة يأتي على رأسها ضيق الوقت، الأمر الذي يعني أن مدى نقاء الفكرة واستقامة برهانها ليس هو الذي سيستقلّ بعقول المتعاطين مع مصادر المعرفة تلك، لكن الأقدر على تسويق فكرته وجذب مستمعيه وقرّائه هو الذي سيكون له الغلبة على العقول، الأمر الذي يعني أننا تجاوزنا عصر البرهان والحجة ودخلنا عصر الكفاءة في الأداء تلك التي تحقق الغرض وتخدم الواقع، بصرف النظر عن مصداقية المؤدى وسلامة منطقه، المهم أنه يحقق الغرض.
الباحث الحريص على وعي لحظته دون أن يغرق في بحار هذه التفاصيل لا محيص له عن اختزال هذا التعقيد في المعروض من المعلومات، بصورة أو بأخرى، حتى يستطيع أن يُكوّن فكرةً بناءً عليها تكون له وجهة وقرار يحفظ له قدرته الأدائية.
القول بالاختزال لا يعني السلامة في زمن التكتلات المتلونة بشتى ألوان جوانب حياتنا من اجتماعية وفكرية وسياسية ودينية، وطائفية في بلدان غيرنا، إذ إنك ستختزل الصورة على نحو يحفظ لك انتماءك الفكري وتوازنك الوجودي، وقليل منا أولئك الذين سيفكرون في السباحة إلى شُطْآن الآخر.
الصورة على هذا النحو تحتم وجود قواعد حفظ وجود تُمكّن الجميع من العيش معًا، دون تصارع أو شجار، ويقتضي ذلك أن ترتب أركان الهوية، وهي ثلاثة: الانتماء إلى سلالة واحدة، واللغة، والعقيدة ترتيبًا يبدأ بما يجمع بين الناس من أركان، ثم يلحقه ما يختص به كل واحد منهم، وتَقدّم ركنٍ على الآخر لا يعني عدم أهمية المتأخر أو قدرة الاستغناء عنه، بل هو سبب وجود، أؤكد على هذا الكلام، لأنني شاهدت مؤخرًا برنامجًا يطرح سؤالًا بشأن جدوى تدريس اللغة العربية والتربية الدينية في المدارس، والقوم في الإعلام يخوضون في أمور لا يعرفون في عيرها ونفيرها، وفي هذا الصدد أود أن أنقل كلمة مختصرة تكشف أهمية البعد الثقافي الذي تمثل اللغة مظهرًا مهمًا فيه، للدكتور عبد السلام المسدي، إذ يقول: “ليس من صراع سياسي إلا ووراءه صراع اقتصادي، وليس من صراع اقتصادي إلا وخلفه منازعات ثقافية ولغوية” انظر العرب والانتحار اللغوي، ص 48، والرجل قدم من التحليلات والوقائع المعاصرة ما يؤكد حكمه، وكلامي يتعلق باللغة أما الدين فلا شك في مجانبة الطرح للصواب فيما يتعلق به، وذلك لأسباب كثيرة يضيق عنها السياق.
بإيجاز ما أريد قوله: إن حتمية الاختزال في زمن التكتلات الأيديولوجية من ناحية، والوفرة المعلوماتية من ناحية أخرى– تشكل خطرًا إن لم يكن ثمة قواعد تضبط حركة المجموع.
وهناك كتب كثيرة تعالج هذه القضية وما شابهها، منها للدكتور عبد السلام المسدي: (تأملات سياسية)، (الهوية العربية والأمن اللغوي)، (السياسة وسلطة اللغة)، بالإضافة إلى الكتاب سالف الذكر، وكتاب (السياسة اللغوية في البلاد العربية) للـد.عبد القادر الفاسي الفهري، وكتاب (بعد الحداثة صوت وصدى) للـد.مصطفى ناصف، وإن كانت معالجة د.مصطفى ناصف من زاوية نقدية متعلقة بمناهج دراسة النص واختراق السياسة لها، وهناك حديث مقتضب بخصوص هذه النقطة للـد.عبد العزيز حمودة في صدر الجزء الثاني من ثلاثيته، أعني كتاب (المرايا المقعرة)، فليراجع القرّاء هذه المراجع ليعرفوا كم هي الجناية التي نجنيها على أنفسنا قبل الجناية على لغتنا وثقافتنا وحضارتنا، بمثل هذه الأحاديث التي يخوض فيها قصار النظر منا.
مقالات ذات صلة:
تأثير الموروث الشعبي على النخب الثقافية
بين الشرق والغرب ما يجب أن يكون
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا