إننا كأمة تحاول النهوض من كبوتها وإعادة تطويع طاقاتها بشكل فعال، قد خرجت لدينا في القرنين الأخيرين حركات فكرية وجماعات عدة تحاول استنهاض الأمة، وإخراجها من حالة الرضا بالأمر الواقع والكساد في الطموحات والأحلام، حالة الاستهلاك المادي والثقافي عند شعوب كانت يوما مهدا للحضارة ومنارا لها.
لكن هذه الحركات لم تحقق النتيجة المأمولة، واعتبر كثير منهم أنّ هذا الفشل لا يرجع بالدرجة الأولى إلى سوء جودة الفعل أو كونه غير مناسب من ناحية الكم والكيف لمواجهة الواقع، بل إلى عدم تأثر الواقع كما ينبغي بهذا الفعل، نتيجة لرداءة الخامة (عدم استجابة الشعوب وتخاذلها) وكثافة المؤامرات (العوامل الخارجية). للأسف في كثير من الأحيان فإن هذه الرؤية تكون شبيهة بغضب حامل المفتاح من أنّ الباب لم ينفتح بالمفتاح الذي صنعه خصيصا لأجله!
ليس حسن نوايا حامل المفتاح هو ما يفتح قفل الباب، ولا الإصرار على إدارة المفتاح بعصبية وتكرار حتى تحدث الصدفة الكونية واللطف الإلهي فينفتح الباب، وإنما كون المفتاح هو الخاص بهذا القفل تحديدًا واستخدام القدر المناسب من القوة لفتحه! وكون الباب متعذرًا على الفتح لوجود حائل آخر يصب في نفس المعنى: ضرورة قراءة الواقع بدقة واختيار الأسلوب المناسب للتعامل معه، وليس اختيار الحل ثم الاعتراض على كون الواقع غير متماشٍ معه!!
لنترك ميدان الملحمة الكبير ولنتأمل قليلا ميدان الملحمة الصغير: تغيير الإنسان لنفسه. عند إصلاح الإنسان لنفسه فإن الملاحظة التالية في غاية الأهمية: هناك حقيقة متعيّنة في الخارج مستقلة عن رأي البشر، يحاول الجميع وصفها وإيجاد الطريقة المثلى للتعامل معها. هناك نفس، وجودها سابق عن إدراك الإنسان لهذا الوجود وبحثه فيه، يحاول الإنسان حتى وقتنا الحاضر فهمها وكشف أسرارها وسبر أغوارها. هذه النفس لها احتياجات وخواص معيّنة، ينبغي لنا جميعا أن ندركها ونحترمها وإلا ستتكرر الخيبة والمفاجآت المتنوعة. والجهل بعلم النفس يقود لعلاقات مضرة ومربكة يكون فيها أحد طرفي العلاقة تابعا مسَلَّما بوجوده، حتى لو كانت علاقة الإنسان بنفسه. عندها يجد الإنسان نفسه “مجرجرة” بين المهام المتتالية دون أن تحصل على احتياجاتها، فلا تلبث أن تنضب طاقتها أو تتمرد.
إن النفوس لا تنزل على رأي العقول بلا مماطلة أو مقاومة إلا نادرًا، وتلك الندرة ليست وليدة الصدفة أو غير معروفة السبب. فالنفوس عند الإنسان وسائر الحيوان تُراكم الميول والعادات بالتكرار وبالتربية والمواقف عميقة التأثير، وتقوم بتكوين روابط شعورية بين المعاني أو الأفراد أو المواقف من جهة، وبين الشعور بالسعادة أو الألم أو الخوف… وهكذا من الجهة المقابلة، هذه الروابط لها سلطة كبيرة على فعل الإنسان وانحيازه في اختياراته. هذا لا يعني أن للنفس إرادة مستقلة عن إرادة العقل الذي يتميّز به الإنسان، أو أنّ الإنسان مسيّر تحت وطأة نشأته وغرائزه الطبيعية والظروف المحيطة به، لكنه يعني أن هذه النفس ستكون مقبلة متفجرة بالطاقة والحماس على ما اعتادت على كونه مرتبطًا بالسعادة والراحة وحسن الحال عمومًا، وستكون حريصة ومتشككة بخيلة في البذل فيما لا تضمن عاقبته، وقد تستخدم حيلا نفسية انسحابية عديدة للهروب من مواجهة المواقف المسببة للشعور بالخوف أو العجز وعدم الأمان.
فكيف السبيل إذن لخلق حالة من التناغم والانسجام بين العقل والنفس؟
الإجابة سهلة وبديهية: بالتربية.
يقول الشيخ محمد الغزالي: الأصل في التربية تعهّد الأخلاق، ولما كان الخلق بالتعريف العلمي هو عادة الإرادة، فإن المفروض في برامج التربية:
أوّلا: أن ترسم الوجهة للسلوك المنشود
ثانيًا: أن تدرّب الأفراد على هذا السلوك، وتأخذهم به أخذًا مستمرًا حتى يصبح طبعًا لهم وصبغة سائدة فيهم، فالمربّي أشبه بالزارع الذي يتولى البذر والحرث والسقيا والحماية والإخصاب والانتقاء حتى تنضج الثمرة وتؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها.
والطالب الذي يمر بهذه الأدوار يصاغ في قوالب معروفة الشكل والصورة، فإذا ربّي على الصدق صعب عليه الاختلاق والتخريف، وإذا ربّي على الأمانة انزعج من العِوج والغدر.
وفي أثر التعوّد واستقامة الوجهة يقول الشاعر:
تعوَّدَ بسطَ الكفِّ حتى لو أنه ثناها لبخلٍ لم تطعه أنامله[i]
إنّ لكل منا سلطة عقلية على نفسه، رقابية وتنفيذية، سواءً وصلته رسالة إلهية أم لا، هي السلطة التي يبرزها الله تعالى في قوله
{بل الإنسان على نفسره بصيرة (14) ولو ألقى معاذيره (15)}
فالإنسان بعقله وفطرته يدرك إجمالا حسن العدل وقبح الظلم، كما يدرك أنّ في إطلاق العنان لشهواته ورغباته تنشئة لنفسٍ جامحةٍ متفلّتةٍ من قيد العقل والانضباط، نفسٍ تستزيد مما يبعدها عن الرشد. هو كذلك يدرك أنّ تنشئة نفس لا تجد في الملذات المادية والمغريات الاجتماعية قيمة تستحق السعي وبذل المجهود، لهو أمر مفسد للنفس والمجتمع ومخالف لطبيعة الإنسان[ii]. وطالما أن نشأة الإنسان واختياراته تحدث بمشاركته، وطالما أن التغيير الذاتي ممكن، فليس للإنسان ادّعاء أنّه مغلوب على أمره.
إذن فربما الأدق تشبيه الموقف إجمالا بغضب الفارس من الفرس الجامح نتيجة لفشل محاولته المتكررة لترويض هذا الفرس. والسؤال: أليس هو ذات الفرس الذي يتخيّل الفارس المروّض نفسه وهو يمتطيه ليقهر أعداءه الجبابرة واحدا تلو الآخر دون أن يكلّ، فيحقق المجد وينال الوعد؟ وكيف يتوافق ذلك مع اعتقاد أنّ فرسًا مهيبًا كهذا سوف يكون سهل الترويض والانقياد أو أنّ هذا الفرس ضعيف الإمكانيات. علينا أن نخرج من دائرة التلاوم والسلبية، ونجمع بين المعرفة الصحيحة لما ينبغي أن يكون، وللواقع المنظور، ثم القيام بإعداد خطة مناسبة للتعامل معه، مع تصحيح الخطة وفق ما يتكشف من العلم الصحيح أثناء التنفيذ، وليأخذ العلاج ما يحتاج من الوقت والجهد، بدلا من تكرار المحاولات العبثية المحبطة.
اعرف نفسك، اقبلها، واعرف كيف تصونها وتزكيها وتخرج منها أفضل ما بالإمكان. إن لم تكن تعرف كيف تحب نفسك فكيف سيكون بإمكانك أن تغدق الحب على غيرك؟ إن لم تعرف كيف تعدل، أو تسامح، أو تتفهم أو تواسي، أو تحبب نفسك في شيء، فكيف ستوفّر هذا للآخرين؟
أما عن تطبيق هذا المثال على نطاق المجتمع فذلك يلزمه أخذ عوامل إضافية في الاعتبار. لكن المؤكد أن الانتصار في ميدان الملحمة الصغير هو الانتصار الأكبر والأعظم، وهو الممهد للانتصار في الميدان الكبير.
“وإنها لشرعة السماء: غيرّ نفسك، تغيّر التاريخ.” [iii]
————
[i] نهاية الاقتباس
[ii] كل الخيارات المتطرفة بديهيا مرفوضة، ولكن رفض بعضها أكثر بداهة، تبعا للسياق الثقافي السائد وهو في حالتنا طغيان التعريفات المادّية لكل شيء.
[iii] مالك بن نبي