على مر التاريخ اختلفت الفلسفات وتولدت منها الأيدولوجيات وتكونت الحضارات إلي عصرنا الحالي. تتفق بعضها في أجزاء من الرؤي وتختلف في أخري، تتقاتل تتناحر تتصارع صراع الحيوانية ليأكل القوي فيها الضعيف متناسية إنسانيتها النابضة بالخير والحب والجمال والرحمة، تختلف بعقولها رغم أن المعرفة لواقع واحد وخالق واحد وحقائق واحدة.
وتشترك بأنهم من طبيعة واحدة تختلف الأشكال وتظل الطبيعة واحدة لا يمكن لأحد أن ينسلخ عنها؛ فقد نجد شخص ما يمنح دم إنسان أبيض البشرة لينقذ حياته والمانح إنسان ذو بشرة سوداء لتقيم الحقيقة نفسها معلنة أنكم من أصل واحد، فلِمَ أبادت الحضارات بعضها البعض، ولم تناحرت الأخرى فيما بينها لتقتل وتفتت نفسها عن جهل وطمع فتسقط من القمة إلى القاع؟
ما أصل هذا الخلاف الفكري والواقع واحد والحقيقة ثابتة؟
لم تحجب العقول البشرية عن الحقائق أو يلقونها جانبًا مقابل مصالحهم وشهواتهم الشخصية؟
فيمد لنا العقل البرهاني يد النجاة ممسكًا بيد السماء متنزهًا عن دناسة الحيوانية ونار الشهوانية إلي النورانية والقداسة السماوية فهل نسمع له ونروض ذلك الحيوان الكامن فينا فنتجنب الأنانية الشيطانية المهلكة لنا وللعالم أجمع؟!
تعدد المعارف
لا يمكن للإنسان أن يميّز بين الصواب والخطأ أو الحسن والقبح إلا بمعيار يستند على حقيقة ثابتة تجعل منه رصيفًا ثابتًا يمكن الراصد من رصد الحقيقة الواقعية يقينًا دون أدني شك.
ولأن الوجود واسع متعدد المعارف من كلية وجزئية وغيبية ومرئية تشمل جانبيه المادي والمعنوي
المعرفة الكلية هي تلك القواعد العامة التي تم استنباطها من خلال بديهيات عقلية كوجوب وجود خالق ووجوب اتصافه بالكمال المطلق وحسن العدل والخير والجمال وغيرها وهي تشمل الوجود المادي والمعنوي؛
فمثلاً إن قلنا أن الكل أكبر من الجزء تلك قاعدة كلية (بديهية عقلية) فحتمًا جزء التفاحة أصغر من التفاحة كاملة (ذلك مثال إسقاطي لفهم طبيعة القاعدة العقلية الكلية وكونها كذلك قاعدة كلية للواقع المادي نفسه.)
المعرفة الجزئية هي تلك المعارف المدركة عن استنباط عقلي كلي أو عن التجارب أو عن الحواس والمشاهدة.
وهي كذلك تشمل الواقع المادي والمعنوي؛ إلا أنها في الواقع المعنوي بحاجة إلى أداة النص والعقل معًا لعجز العقل عن إدراكها وحده بحكم أنه يستحيل أن يحيط بالكل وهو أحد الأجزاء.
يوظف خلال عملية إدراكه للكون عدة أدوات معرفية هي (العقل _ النص _ التجربة والحس _والقلب) إلا أننا جميعًا دون وعي منا نستخدم تلك الأدوات سواء كان في محلها أو في محل أخري وكذلك سواء كانت الطريقة سليمة أو خاطئة،
ولكن لكي نتيقن سلامة استخدامنا للأداة المعرفية؛ واجب علينا أن نعي أننا نستند حينها على ذلك الرصيف الثابت أم لا.
كالذي يملك ميزان يحكم من خلاله على وزن الأشياء أو كالذي بيده ميزان ماء يكشف به استقامة الأسطح.
العقل كأداة
فللعقل مثلاً بديهيات تم من خلالها تكوين قواعد تفكير سليمة من تلك البديهيات المتيقن صحتها يمكن للعقل أن يرصد مجال إدراكه (المعارف الكلية) رصدًا سليمًا لارتكازه على ذلك الرصيف الثابت.
كقولنا مثلًا:
“أننا مخلوقات” بديهية عقلية (حقيقة/رصيف ثابت).
“ولكل مخلوق خالق” بديهية عقلية (حقيقة/رصيف ثابت).
“فحتمًا هناك خالق” نتيجة بديهية (حقيقة/رصيف ثابت).
فعلم المنطق يقدم تلك القواعد تفصيلاً ولنا على قناتنا أكاديمية بالعقل نبدأ دورة لتلك القواعد مبسطة
النص
والنص رغم اختلاف الفهم والاستنباط والإسقاط الذي يتباين فيه اختلاف العقول لفهمه إلا أنه في حقيقته أداة معرفية لواقع واحد يشير لحقائق ثابتة بعينها لا تتغير؛ فحتمًا لمعانيه مضامين إن كانت كلية أو جزئية فهي تشير لتلك الحقائق وحتمًا اختلاف وتفاوت العقول في فهمها لا يشير إلى تناقض الحقيقة نفسها؛
بل أن العقول هي معيار فهم ومعرفة ليس بمعيار ثابت وإنما هي عقول على قدر متفاوت من العلم ولا دليل على إحاطتها؛ ولذلك وجب أن يكون لذلك النص مُبلغ يعينه الخالق على الناس تعين الأعلم (الخالق العالم الحكيم سبحانه) لمن هو أعلم في الخلق (المُرسَل)
ومن ذلك المعيار لا يمكن التشكيك في صحة ما يقول لنا المُرسَل الأعلم في الخلق لكونه يتمتع بعقل معياره صائب (حكيم عارف في خلقته بتلك الهيئة من الخالق) فهو الرصيف الثابت لفهم النص والواقع بشكل إجمالي يشمل الخالق والمخلوق وما يجب أن يفعله المخلوق حتي يتكامل ويسعد ولا يُفسد ويَفسد.
التجربة والحس
ومن التجربة والحس يستقي الإنسان معارف عالم الطبيعة ويقف على حقائقها. ومن تلك الحقائق أنه كون مركب ذو جانب غيبي خلف ذلك الجانب المعنوي؛ فيستوجب التعامل معه بتلك الطبيعة الشاملة لا اقتصار التعامل على جانب واحد دون الآخر وإلا لأصبح الإدراك ناقصًا مغلوطاً؛
ولذلك لا يمكن أن يذهب ويفسر ظواهر الطبيعة أو استنتاجاته منها على ضوء فقط ما يدرك بحواسه فقد يكون الحس قاصرًا لا يسعفه أن يدرك الحقيقة كما يحدث في رؤيتنا للأجسام البعيدة بحجم صغير رغم كبر حجمها كالشمس مثلاً.
فلذلك هو في حاجة إلى أن يفسر ويكتشف القوانين الطبيعية أو يتعامل معها ويتفاعل وفق المعرفة العقلية والنصية التي تجنبه الإفساد في الكون وجلب الضرر على نفسه لكونها حقائق. لذلك الوجود واجب مراعاتها كما يراعي المجرب (عالم التجربة) قوانين وعلوم الطبيعية (العلوم المادية)
القلب
والقلب ذلك الجوهر الإنساني المرن المُهيئ ليصبغ بأي صبغة كانت، فيشكل طابعه وماهيته فهو رغم كونه مدركًا بقدر ما، فلا يمكن ترجيح إدراكه محل اليقين إلا حينما يستند على عقل ونص؛ فهنا يمكنه بعد ترويض النفس أن تصفي رؤيته شرط ألا يخالف في إدراكه الحقائق العقلية والنصية والحسية؛ فكما تقدمنا الواقع واحد لا تتناقض حقائقه وإلا لاختلط عليه الأمر فوهم بما هو ليس حقيقة.
اقرأ أيضاً:
ضرورة قواعد التفكير المنطقي للعقل
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا