مقالاتمنطق ومعرفة - مقالات

العلاقة السببية بين الإمكان والضرورة .. الجزء الرابع

«إيمانويل كانط» (Immanuel Kant 1724 – 1804)

التساؤل السابق من وحي المذهب الكانطي الذي جاء ردَ فعل سريع ومباشر ضد نزعة «هيوم» التجريبية، ونظرته السلبية لقدرات العقل الإنساني. حقًا لقد اعترف «كانط» بأن «هيوم» أيقظه من سُباته الدوجماطيقي، فأقر بتركيبية العلاقة السببية وكُليتها، لكنه وجد أن هيوم لم يتمثل المسألة بكل جوانبها وسعتها، واكتفى بتناولها من جانب واحد فقط، هو جانب الإدراك الحسي.

لكي نتبين ذلك نقول إن أحكامنا وفقًا لـ«كانط»، إما أحكامًا للإدراك الحسي أو أحكامًا للتجربة، وليست للأولى سوى قيمة ذاتية ناجمة عن الترابط المنطقي بين الإدراكات الحسية في الذات المفكرة، ولا تتعلق بالموضوع إلا بصفة بعدية، أما الثانية فهي تستلزم دائمًا تصورات خاصة حاصلة أصلًا في الذهن، وتعطيها قيمتها الموضوعية الثابتة من شخص إلى آخر. وهكذا فالتجربة لا تقدم نظامًا ضروريًا شاملًا إلا بفضل النشاط القبلي للذهن البشري، الذي يُدرك كل الأشياء والحوادث في صورتي المكان والزمان، ويضمها تحت مقولات الوحدة والواقعية والجوهرية والسببيـة، إلخ. وهذه الصور أو المقولات ليست مستمدة من التجربة، وإنما هي من إنتاج العقـل الخالص، ومن ثم فهي قبلية بالنسبة إلى كل إحساس أو انطباع.

السببية إذًا مقولة عقلية بها تستحيل أحكام الإدراك الحسي إلى أحكام للتجربة، فإذا قلت مثلًا: “إذا سقطت أشعة الشمس على الحجر، سخن الحجر”، كنت بإزاء حكم للإدراك الحسي ليست فيه أية ضرورة مهما كان عدد المرات التي أُدرك فيها أنا أو غيري من الناس هذه الظاهرة، فقد اعتدنا على وجود هذا الترابط بين الإدراكات الحسية. أما إذا قلت: “الحجر يسخن بأشعة الشمس”، فأنا أضيف هنا التصور العقلي للسبب إلى الإدراك الحسي، وبذلك أربط بالضرورة تصور الحرارة بتصور ضوء الشمس. وهكذا يُصبح الحكم التركيبي حكمًا صحيحًا صحة كلية، وبالضرورة حكمًا موضوعيًا، كما يصبح حكم الإدراك الحسي حكمًا للتجربة. لكن كيف تنطبق السببية وهي مقولة كلية على الحدوس الحسية وهي إدراكات جزئية متناثرة؟ يجيب كانط بأنها لا تنطبق مباشرة، وإنما عن طريق وسيط يُقدم رسومًا تخطيطية تنتظم بموجبها المدركات الحسية. هذا الوسيط هو «المخيلة المبدعة»، وهي قوة تلقائية تختلف عن المخيلة المستعيدة الخاضعة لقوانين تداعي المعاني.

أما الرسوم ذاتها فهي ما يدعوه «كانط» بتمثيلات التجربة (Analogies of experience)، وهي لا تعمل إلا من خلال صورة أولية تلائم جميع الظواهر، وتلك هي صورة الزمان الذي يتسم بالدوام (Duration) والتتالي (Succession) والتآني (Simultanenity). وهكذا فالدوام هو الرسم التمثيلي للجوهر، أما التتالي فهو الرسم التمثيلي للتسبيب، وأما التآني فهو الرسم التمثيلي للتفاعل المتبادل بين الجواهر. ولما كانت السببية خاضعة في تصورها لتصور الزمان، وكان تصور الزمان خاضعًا بدوره لمبدأ الاتصال، فمن الطبيعي ألا تكون السببية سوى صورة خالصة من هذا المبدأ العام الأسبق ذهنيًا، وبذلك ينتفي أي انفصال بين آنات الزمان المتتالية، وترتفع العلاقة السببية عن أي انفصال مرئي بين الظواهر.

لا شك أن معالجة «كانط» للسببية تتسم بمسحة ميتافيزيقية، لكنها مع ذلك تُشيّد مفهومًا علميًا للسببية يجمع بين النزعتين العقلانية والتجريبية، أو بين التصور وتطبيق التصور، وهو ما عبر عنه «كانط» بقوله: “إن التصورات دون حدوس حسية جوفاء، كما أن الحدوس الحسية دون تصورات عمياء”. ورغم الفارق الشاسع بين توجهات كل من «هيوم» و«كانط»، فإنهما يتفقان في كون العلاقة السببية شيئًا مفروضًا على فهمنا للعالم الخارجي، إما بتداعي المعاني، أو بمقولات العقل المجرد. لكن «كانط» كان أكثر وضوحًا وإقناعًا حين رد السببية إلى مبدأ الاتصال، بوصفه مبدأً قبليًا تنتظم بموجبه معطياتنا الحسية في الزمان والمكان. أما «هيوم» فقد نظر إلى العالم بمنظار ضيق، يُسجل حادثة هنا وحادثة هناك، فأنكر اتصال التسبيب بإنكار إدراكه بالحواس، وإن كان قد أثبته دون أن يدري في منهجه التحليلي لمقولة السببية!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يتبع…

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية