مقالاتمنطق ومعرفة - مقالات

نتعجب من الحيوانات، كيف تحمي نفسها؟ هل تستطيع التفكير مثلنا؟

قصص الحيوانات

كانت ابنتي ذات السبعة أعوام عاشقة للحيوانات، تحب مشاهدتهم وتقضي أوقاتًا طويلة في مطالعة الحكايات وقراءة القصص التي تتصدر الحيوانات أدوار بطولاتها. أسألها: “لماذا تحبين الحيوانات لهذه الدرجة يا عزيزتي؟” تجيبني: “لأنهم لطفاء وطيبون وودعَاء”، فابتسم لبراءة طفولتها وأتركها لألعابها التي تعيش بداخلها في عالم من الخيال المليء بالأصدقاء من الحيوانات تحاورهم وتلعب معهم. مؤخرًا اكتشفت ابنتي عالمًا جديدًا عن الحيوانات من خلال متابعتها لقناة ناشونال جيوجرافك وخاصة تلك الحلقات التي تتناول حياة الحيوان في البرية وكثير من عاداته وسلوكه وطبائعه وخصائصه.

في يوم من الأيام جاءتني باكية وقد أصابتها الدهشة وخيبة الأمل، تسألني في حيرة، لماذا تتصارع الحيوانات بعضها مع بعض لدرجة أن يقتل أحدها الآخر من أجل منافسة على طعام أو على وليف أو على منطقة نفوذ؟! ألا يمكن أن يتصالحوا معًا وأن يقوموا بتقسيم الطعام والماء فيما بينهم وأن يعيشوا مع بعضهم البعض في تناغم وسلام؟!

تعاون الحيوانات

ولأول وهلة تعجبت من سؤالها وسرحت قليلًا وسألت نفسي أيضًا حقًا لماذا؟! وعادت لذاكرتي مشاهد كثيرة سبق أن رأيتها معها من خلال الحلقات، تذكرت مشاهد لجماعات من الحيوانات كيف تتكاتف مع بعضها البعض حماية للجميع ودرءًا للخطر عن أنفسها، ومشاهد عن الانتخاب الطبيعي لتلك القطعان لقيادتها ممن تملك أفضل المميزات بين الجميع وتبعيتهم غير المشروطة لها طالما توفرت لها شروط القيادة من القدرة على توفير الحماية والأمن ومصادر الغذاء، ومشاهد أخرى لصغار الحيوانات عند ولادتها وكيف تكون بلا حول ولا قوة ثم في خلال أيام قلائل يشتد عودها وتمضى لتصبح قادرة على تدبير أمور معيشتها بنفس الطريقة والمنهج الذي يتبعه بنو جنسها بدون أن يعلمها ذلك أحد!

تذكرت كيف كنت دائمًا أتعجب ممن أودع في قلوب تلك الحيوانات وخاصة المفترسة منها ذلك الحنان على صغارها، وتذكرت مشاهد أخرى مبهرة لقدرة تلك الحيوانات على استغلال مهاراتها ومواهبها الطبيعية ببراعة من أجل الاحتيال لصيد فرائسها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

صراع الحيوانات!

ولكن جاء سؤال ابنتي ليعيد إلى ذاكرتي أيضًا مشاهد من نوع آخر، مشاهد تخلّي قطعان الحيوانات عن بعض أفرادها الذين أصابهم الضعف والمرض وتركهم ليواجهوا وحدهم مصيرهم المحتوم بالموت، ومشاهد الصراع الدموي والعنيف بين أبناء الجنس الواحد بلا رحمة فيصرعون بعضهم بعضًا عندما يحدث التزاحم على مصادر الغذاء والمياه في أيام القحط والجفاف طمعًا في احتكارها لأنفسهم، ومشاهد المنافسة الشرسة على مناطق النفوذ ومساحات الصيد والتي دائمًا ما يحسم فيها ذلك الصراع للطرف الأقوى. والمشاهد التي تستعرض فيها دومًا الأنثى مواهبها ومميزاتها من أجل اثارة الذكور وجذبهم اليها، ويستعرض أيضًا فيها الذكر مظاهر قوته على أقرانه من أجل استمالة تلك الأنثى والفوز بها.

ثم طافت بخاطرى نفس التساؤلات، كيف تملك هذه الحيوانات العديد من المميزات التي ينبغي الاقتداء بها وفى نفس الوقت فهي تحمل كثيرًا من الطباع التي تبدو لنا مؤسفة نحن البشر؟ ولماذا لا تملك أن تسيّر حياتها وفق قانون يسمح للجميع أن يعيشوا مع بعضهم البعض في حال من الوفاق والانسجام بدلًا من الاحتكام إلى قانون الصراع والبقاء للأقوى؟!

ولكن في الوهلة التالية مباشرة زالت مفاجأة السؤال التلقائي والبريء لابنتى عندما عدت لأتذكر ما الذي يقود سلوك تلك الحيوانات ويحركها، فجميع بني الحيوان لا يحكمهم سوى سلطان الغريزة والخيال والوهم، وهي القوى الوحيدة التي أودعها الله في نفوسهم، فمن خلال قوة الغريزة والشهوة تندفع نحو طلب الغذاء والتزواج ودفع الخطر، ومن خلال قوة الخيال والوهم تحتال للايقاع بفرائسها وتدبر شؤون حياتها من المأوى والتكيف من خلال المواهب الطبيعية التي أودعها الله فيها، أما لماذا لا تستطيع تلك الحيوانات أن تلجأ للتحكم في كل ذلك من خلال الموازنة أو الملائمة أو إعادة الضبط أو تقييم النفع والضرر أو إعلاء قيم التكافل والرحمة والعدالة على قيمة المصلحة في مواقف الأخطار والتزاحم، فذلك لأنها تفتقر إلى أهم القوى النفسانية المسؤولة عن التحكم والسيطرة على الغرائز والشهوات والغضب ألا وهي قوة العقل.

ميزة الإنسان

هذا العقل الذي مُيّز به الإنسان على غيره من المخلوقات فاستطاع من خلاله أن يضع مساحة من التفكير تفصله بين مشاعره وفعله، فيتساءل من خلاله هل إطلاقه العنان وتبعيته الدائمة لشهواته ورغباته وانفعالاته ستجلب عليه النفع أو الشقاء؟! أين وكيف ومتى ينبغي عليه أن يفعل؟ وما الجدوى والقيمة والغاية التي سيتحصل عليها من هذا الفعل؟! وما الذي يحفظ لهذا المجتمع الذي يعيش فيه انسجامه واستقراره بحيث يحفظ فيه حقوقه وفى نفس الوقت يؤدي ما عليه من واجبات هي بمثابة نفس الحقوق للآخرين من أمثاله؟!

هو العقل الذي يستطيع به أن يدرك ذاته، ويدرك قوانين العالم الذي وُجد فيه فيعلم أن لكل شيء سببا ومن ضمنها أن هذا الوجود نفسه لم يخلق عبثا، إذن لا بدّ من غاية تسمو فوق غاية مجرد البقاء الذي يكفي ليقيمه بعض الطعام والشراب والتناسل الأعمى، هو العقل الذي أدرك قدسية القيم وسمو الأخلاق التي هي الضمان لسير مجتمعه الإنساني نحو هدفه المنشود فأصبح لزامًا عليه أن يسخر كل المواهب والطاقات لإعلائها والحفاظ عليها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الإنسان والحيوانية

قادني هذا التفكير إلى مشاهد أخرى يزدحم بها المشهد من حولنا، مشاهد لأناس تحولوا إلى وحوش لا همّ لهم سوى الإجهاز على فرائسهم والقضاء عليها طلبًا لثروة أو نفوذ، مشاهد لصراعات لا يحكمها إلا قانون القوة يُجهز فيها القوي على الضعيف ويسحقه بلا رحمة بل يعتقد أحيانًا أن العالم يمكن أن يكون أفضل بدونه، مشاهد تجرد فيها البشر من قيم العطف والرحمة والوفاء والنبل والإخلاص سعيًا وراء المادة، مشاهد قامت فيها الحروب وقتل في سبيلها الملايين من أجل شهوة السلطة والسيطرة، مشاهد مستعرة محمومة يلهث فيها الكثيرون حول اللذات والرفاهيات المادية في سباق استهلاكي لا ينتهي، ومشاهد تتعرى فيها النساء وتوظف فيها مفاتنها استغلالًا وجذبًا لعبيد الشهوات للإيقاع بزوج أو تسويقًا لسلعة، ومشاهد لجماعات استباحت الظلم والانتهاك والقتل كوسيلة لنشر الفكر ونصرة لقيم الحق والمبادئ!!

كانت تلك اللحظة من التفكير هي التي تستحق بالفعل دهشتي وتعجبي واستنكاري أكثر بكثير من سؤال طفلتي البريئة، وتساءلت حقًا: كيف وصل إنسان هذا العصر إلى ما وصل إليه؟!!

استفقت على طفلتى الصغيرة وهي لا تزال تستجوبني قائلة: أبي أين ذهبت ولماذا لا تجيبني؟! قل لي كيف تفعل الحيوانات ذلك فأنا حزينة للغاية! شعرت نحوها بمزيد من الشفقة فأجبتها وأنا أضع يدى حول كتفها وأضمها إليّ؛ ومن يملك ألا يحزن على تلك المشاهد يا عزيزتى! إنما تفعل ذلك لأنّها لا تملك عقلًا.

طالع أيضا:

 ثقافة القطيع

اضغط على الاعلان لو أعجبك

جئت لأجيب عن السؤال.. من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟

غريب أمركم أيها الماديون!!

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط

ندعوكم لزيارة قناة الأكاديمية على اليوتيوب

اضغط على الاعلان لو أعجبك

دينا خطاب

باحثة في علوم التفكير والمعرفة

فريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالقاهرة

مقالات ذات صلة