مقالاتفن وأدب - مقالات

إما أن تأكل أو تؤكل

“هناك ثلاثة أنواع من البشر، من هم بالأعلى ومن هم بالأدنى ومن يسقطون” يحكي لنا فيلم “The platform” عن ما يسمى بالمركز العمودي للإدارة الذاتية، وهو مركز يتكون من عدة طوابق مُفرَّغة من الداخل بما يسمح في الطابق لمائدة ضخمة بالمرور من خلال هذه الطوابق كل يوم في موعد محدد ولدقائق معدودة، وقد تم تصميم المائدة بحيث تكفي كل أفراد المركز بشرط واحد وهو أن يأخذ كل فرد ما يكفيه فقط من الطعام.

وإن لم يفعلوا؛ فالموت مصير كل من لم يحظَ بفرصة رؤية ما تبقى من فتات من هم في الطوابق العليا، ولكي يشعر الجميع بالمساواة كان يتم تغيير نزلاء الطوابق كل شهر بشكل عشوائي؛ فربما من كان في الطابق الخامس هذا الشهر يصبح في الطابق المائة في الشهر القادم وهكذا دواليك.

التأقلم وتغيير المعتقدات:

اختار بطل الفيلم “غورينج” بإرادته دخول المركز سعيا للحصول على إحدى الشهادات العلمية المعتمدة والتى يتم الحصول عليها إذا أمضى 6 أشهر كاملة داخل المركز.

في بداية الأمر سعى الشاب لبناء علاقة طيبة مع شريكه في الطابق ولكنه فُوجِىء بسلوك مليء بالريبة والحذر من قِبَل شريكه الذي لم يُبدِ أي اهتمام بتبادل الحديث معه إلا إذا كان سيحصل في المقابل على معلومات قيّمة، فكل ما كان يشغل باله هو ما سيحصل عليه من طعام في هذا الطابق ، وأثناء حديثهم ظهرت طاولة مليئة ببقايا الطعام فتحرك الرجل مسرعًا تجاه الطاولة، وأخذ يأكل كل ما تطوله يده بشكل يبعث على الاشمئزاز،

فدار بينهم الحوار التالي:

غورينج: هذا الطعام سبق أن تم أكله !

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تريماغسي: هذا واضح للغاية، فلا أحتاج لشرح السبب.

غورينج: هذا مقزز.. فعلى فرض وجود 47 طابق فوقنا واثنين في كل طابق، فهذا يعني أننا نأكل بقايا طعام 94 شخص !

تريماسي: لا تقلق عما قريب سيقل عدد من فوقنا، الآن تناول الطعام!

غورنج: لست جائعا.

تريماغسي: ستجوع قريبا!

غورينج: كم مستوى يوجد هنا؟

تريماغسي: لا أدري على الاقل 132؛ لأنني كنت هناك، وكان هناك المزيد بالأسفل .

غورينج: وكم من الطعام كان ينزل إلي هذا الطابق؟

تريماغسي: لا شىء .

غورينج: ولكن لا يمكنك البقاء حيًا بدون طعام لمدة شهر !

تريماغسي: لم أقل أنني لم آكل شىء، ولكني قلت فقط أن الطعام لم يكن يصل إلينا، كما أنه يمكنك العيش بدون طعام لمدة شهر ولكن لا يمكنك ذلك إذا تلقيت مستويين منخفضين متتاليين .

صُدم “غورينج” بالطبع جرَّاء سماعه لكل هذا وأيضًا لتأقلم شريكه مع ما يحدث، وشرع تلقائيًا في مناداة مَن هم بالأعلى والأسفل؛ لكي يحددوا حصصهم من الطعام ولكنه سرعان ما يئس.

فالجميع منشغل بنفسه.. ولكن مع مرور الأيام لم يجد مفر من مشاركة “تريماغسي” وليمته، وبدأ تدريجيا في استصاغة بقايا الطعام دون أي شعور بتقزز أو اشمئزاز، ولكنه التزم قدر الإمكان بأكل ما يكفيه. ولكن هل سيستطيع الحفاظ على ما تبقى من إنسانيته؟! هذا ما كان يشك فيه “تريماغسي”.

إما أن تأكل أو تؤكل

مرت الأيام حتى اقترب موعد تغيير الطوابق، حيث يتم تنويم جميع النزلاء وتغيير طوابقهم بشكل عشوائي، وقبل الموعد بقليل دار بين “غورينج” و”تريماغسي” الحوار التالي :

تريماغسي: هل تؤمن بالله؟

غورينج: لماذا تسأل؟

تريماغسي: إن كنت تؤمن بالله فصلى لأجلنا.. هل تشم هذه الرائحة؟! إنها رائحة الغاز في ثوان سيقومون بتنويمنا، وفي الغد سنستيقظ بمستوى آخر. أنت تروق لي يا “غوريج” ولا أظنك ستعيش طويلا، ولكنك تروق لي.

وفي اليوم التالي يستيقظ “غورينج” ليجد نفسه مقيدًا بسريره ولا يستطيع الحركة، وإذا بتريماغسي يقول له: استرخ وانظر فهذا ليس بالمكان الجيد كما ترى “يشير الي رقم الطابق 171″، هل تفهم الآن؟ أنت أصغر منى وأقوى منى، قد تحتمل لبضعة أيام، ولكنك ستنظر إلىّ بشكل مختلف مع مرور الوقت؛ فالجوع يجلب الجنون. وفي هذه الحالات إما أن تأكل أو تُؤكل.

غورينج مترجيا : لا تفعل هذا يا “تريماغسي” لست مضطرا لذلك؛ يمكننا العيش على الماء فحسب.

تريماغسي: ولكن ماذا إذا كنا في مستوى منخفض الشهر القادم؟ ستتلاشى صداقتنا ببطء، وسينتهى الأمر بعدم ثقة متبادلة، أنا أعرف ذلك فقد اختبرته من قبل.

غورينج: أنت قاتل لعين.

تريماغسي: لا… أنا خائف فحسب .

انتظر “تريماغسي” أكثر من أسبوع على أمل أن ينزل بعض بقايا الطعام، وعندما نفذ صبره، ونفذت قدرته على الاحتمال شرع في سلخ قطعة من جسد “غورينج” ،ولكن من حسن حظه أن أنقذته امرأة تنزل كل شهر مرة بحثًا عن ابنها، فبعد أن طعنت “تريماغسي” أعطت السكين لغورينج لينال منه؛ فأخذ يطعنه بشكل وحشي إلي أن قضى عليه.

مرت الأيام، ولم يجد “غورينج” مفر من تناول لحم “تريماغسي” المتعفن وهنا تحقق ما تنبأ به “تريماغسي” منذ البداية.

خلاصة:

بالرغم من قسوة مشاهد الفيلم إلا أنه يُجسد حال الإنسان عندما لا يبقى من إنسانيته إلا المُسمى فقط دون المعنى، وهو من العمق والواقعية بما يجعلنا نفهم جيدًا سلوك الكثير من العامة والتجار ورجال الأعمال وحتى الحكومات في ظل تعرضنا لوباء “فيروس كرونا”، بل وحتى قبله، فالإنسان المادي لا يشبع ولا ينشغل إلا بنفسه ودائم التنافس والصراع على ما هو مادي ولا يحب إلا نفسه؛ فسلوكه لا يرقى حتى لنشبهه بسلوك الحيوان،

لذا إذا أردنا أن نختبر إنسانيتنا فهذا هو الوقت المناسب، فليس من يهتم بصحة وسلامة عماله ويستمر في دفع رواتبهم كمن يطالب باستمرار العمل حتى تستمر عجلة الاقتصاد في الدوران ولا تتأثر مصالحه، وليس من يشتري ما يكفيه لشهور كمن يشترى ما يكفيه مع ترك ما يكفي غيره.

وليس مَن يُخاطر بنفسه وحياته من أجل الآخرين كمن لا يبالي إلا بقوت يومه متغافلا عن أبسط حقوق الناس عليه كالحفاظ على نظافته الشخصية واتباع التعليمات الوقائية.

فلنستيقظ!؛ فربما نحن مصابون بمرض أشد فتكًا من كورونا؛ ألا وهو الجهل بما يجعل الإنسان إنسانًا ويُميِّزه عن غيره من المخلوقات.

اقرأ أيضا:

هل نفقد الأمل فى إنسانيتنا؟

المنزل الذهبي وغياب الأخلاق

هل من سبيل لإحياء مجتمع كثرت خطاياه؟

محمد خيري

عضو بفريق بالعقل نبدأ القاهرة