إصداراتمقالات

إحياء القلب

“هل تعلم: بالنسبة لشخص لديه على ما يبدو أكثر الدوافع روعة وإبهارا، فإنك تبدو لي قليل الدافعية بشكل لافت للانتباه”

الاكتئاب: نسمع كثيرا هذا المصطلح ونستخدمه بشكل عفوي، لكن ما معناه الحقيقي، وما الفرق بين مريض الاكتئاب، ومن يمر بحالة إحباط مؤقتة؟ وما مسببات الاكتئاب؟ من خلال هذا المقال سنحاول أن نوضح ما هو الاكتئاب من منظور عقلي، ونعرض رؤيتنا لكيفية التعامل معه.

في البداية يجب أن نفرّق بين من يمر بحالة مزاجية اكتئابية عارضة، وبين مريض الاكتئاب. عندما يصاب الإنسان بحالة من الضيق واليأس وفقد الدافعية، مع بعض اضطرابات النوم والشهية وغير ذلك من الأعراض فإنه يكون يمر بحالة مزاجية اكتئابية. ويعتبر المختصون وجود تأثر كبير للحياة الاجتماعية والمهنية للفرد بجانب مدة بقاء الأعراض المعيار الأقوى لتحديد ما إذا كان الاكتئاب حادّا أم لا.

إنّ للإنسان قلبا[i]، يقوم هذا القلب بإنفاذ إرادة الإنسان إلى الواقع من خلال استخدام مجموعة من المهارات ووسائل التعبير، التي تعتبر مثل العضلات التي تحتاج لتمرين وتغذية مستمرين. والقلب يضخ الدماء في الجسم ممدا إياه بضروريات حياته واستمراره، لكنه يحتاج الإمداد بالأكسجين القادم من رئتي المشاعر، مثل تعزيز الذات، والتشجيع المادي والمعنوي، والإيمان بقيمة ما يفعله الإنسان، وقدرته على التغيير، وجدوى فعله. كل هذا يعطيه الطاقة لكي يستمر في العمل لتحقيق الأهداف على المدى القصير والمتوسط والطويل. هاتان الرئتان تتنفسان من الهواء المحيط بما فيه من المكونات غير المرغوبة، وما يحمله الدم من المغذيات والمواد الضارة أيضا قادم من النظام الغذائي والبيئة التي يعيش فيها الإنسان.

ما الذي يحدث عندما يتوقف القلب عن استقبال الرسائل الإيجابية؟ ما الذي يحدث عندما يشعر أن الحياة مثيرة للاشمئزاز وأنه في بيئة مدمرة؟ ماذا لو أضيف لهذا تراجع عرضي أو تدريجي للنجاحات في الحياة؟ ببساطة –مؤلمة- فإن القلب لا يجد الطاقة، لا يجد ما يكفي من الأكسجين لكي يضخه في الدماء خلال أوعية الجسم لسائر أعضائه لتؤدي وظائفها كما ينبغي. عندما تبدأ وظائف هذه الأعضاء في التراجع، وهو الأمر الذي يشعر به صاحب الجسم، ويضاف لمجموعة العوامل التي تسلبه طول النفس والقدرة على العطاء ومقاومة الصدمات.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

عندما يستمر هذا لوقت طويل فإنه يعني توقّف الإنسان عن اشتهاء تحقيق الأهداف طويلة الأمد، ثم متوسطة الأمد، وهكذا… إذن فجزء مما يحدث على مستوى القلب هو تعطّل لقوة الشهوة في الإنسان.

لكن ماذا عن الغضب، وعمّا بعد القلب؟ في الحقيقة هذا هو الجزء الذي غالبا ما لا يتم الالتفات إليه.

أما عن الغضب فهو غريزة وجدت للدفاع عن المصالح، وبفقد الاهتمام بالواقع لا تعود هناك رغبة في الدفاع عن شيء فيه، بل إن المكتئب يرى أن الواقع يؤذيه فيتوجه غضبه نحوه، ويخرج إما في صورة عنف وعصبية مع الآخرين، وإما في صورة انزواء ورفض للتعامل مع الواقع، والغضب كالنار التي تحرق زهرة الحياة.

وأما عن الملكات الذهنية والاجتماعية فهي تتراجع فعليا، إذ أنّ إفرازات بعض المواد التي ثبت ارتباطها بالذاكرة وبالتركيز وبالثقة بالنفس يتراجع أيضا بشكل واضح، وهو ما يركّز العلاج الدوائي على محاولة إصلاحه. هذا من ناحية العلل المادّية، لكن يجب أن نتذكّر أنّ كفاءة التوصيلات لا تصنع التدفّق، وإنما تمهّد لمروره، وعلى الإنسان الذي يريد التعافي أن يصحح جميع الأوضاع الخاطئة كما سيأتي في نهاية المقال ليحصل على تأثير حقيقي.

إن المصاب بالاكتئاب عندما يبدأ المهام التي يريد تأديتها قد تكون لديه بعض الحماسة، لكنه يمل ويفقد الطاقة بسرعة مقارنة بالإنسان المعافى، لكونه مفتقدا لعادات الناجحين… وقد يكون هو نفسه كان أحد الناجحين في السابق. إنه يفتقد تلك الأشياء التي من الصعب أن ترويها لك الكتب وتحدثك عنها المقالات… والتي تفعلها تلقائيا دون توجيه أو بحث عندما يكون لديك شغف جارف تجاه شيء ما أو رغبة عارمة في تحقيق هدف ما، بالتأكيد لدى كل منا لحظة ما في حياته، فعل فيها شيئا بجودة استثنائيا أدهشته هو شخصيا، وبالتأكيد فإنه حينها لم يتصرف “كما يفعل كل الناس” أو كما لو كان غير مكترث.

والناجحون الذين يمرون بمراحل تراجع واكتئاب يجدون أن هناك أشياء كثيرة صغيرة كانوا يفعلونها، مثل مقدار يومي من الرياضة ولو حتى المشي، ووجود جانب اجتماعي كافي في حياتهم، والذهاب لأماكن طبيعية واسعة، والمشاركة في أعمال تطوعية، والحفاظ على علاقة ثابتة مع الخالق.. كانت تحقق بالنسبة لهم الاستقرار النفسي والقدرة على المداومة والنهوض بعد الكبوات، بالإضافة إلى العادات الخاصة بالنجاح العملي مثل التخطيط وتنظيم الوقت والتركيز على المستهدف وكثرة التمرّن على أداء المهام. كانت لديهم هذه الجوانب في حياتهم لكنها ضاعت في زحام الحياة، بعضها ربما كان يبدو وجوده ثانويا تكميليا في الحياة، أو غير ذا صلة قوية بالنجاح الاجتماعي والأكاديمي، لكن الواقع يقول غير ذلك.

أثناء مرحلة التعافي التي تنتهي باستعادة الإنسان قدرته على التعامل مع الحياة والمجتمع بشكل طبيعي[ii]، كثيرا ما ستكون الدوافع حاضرة والأهداف موجودة، لكن مع كون النفس مترهلة غير معتادة على معدل العمل الطبيعي، والقدرات في التعامل مع الواقع متراجعة، فإن المردود لن يكون كمردود شخص معتاد على النجاح متمرّس في الإنجاز. من المهم هنا جدا تجنّب المقارنة بالأقران التي تعتبر مثالا صارخا على أسلوب التمثيل[iii] في الاستنتاج وضرره، فالذي تعثّر وسقط وسط السباق لن يقوم ليستأنف السباق من حيث وصل زملاؤه، ولن يكون في نفس جاهزيتهم لاستئناف السباق حين يقومُ مصابًا… ناهيك عن كون السباق ذاته وهمًا أخرق. [iv]

إن النمط المادّي النفعي للحياة، الذي يتعامل مع الطبيعة بوصفها خادمة لأغراض الإنسان وأرباحه، هو السبب في الكثير من الكوارث البيئية ومهددا الحياة على وجه كوكبنا، هذا الفكر انتقلت عدواه لنا على ما يبدو، فصرنا نتصرف بالإضافة والحذف في مفردات حياتنا باعتبارنا تامّي العلم، وصرنا نتعامل مع أنفسنا ومع العلاقات أيضا بمنطق النفعية والفاعلية. جعلنا المهم هو ما جلب لنا منفعة اجتماعية أو مادّية، أما عن باقي الأشياء فتوضع في خانة “مهم ولكن”، وذوو البصيرة الصرحاء مع أنفسهم يعلمون أن “لكن” غالبا ما تعطّل ما قبلها.

يقول غاندي: “إن الأفعال تعبّر عن الأولويات”. وما يحدث هو أنّ محورا ما يأخذ غالبية الوقت في حياة هذا الإنسان بما لا يسمح له بإعطاء ما هو “مهم ولكن” مساحة في الواقع… فيختّل التوازن في حياته، وتعتلّ نفسه. ولا شك أن جزءا كبيرا من سبب ذلك قد يعود لكون الحمل الموضوع على عاتق الإنسان غير عادل.

إذًن إجمالا: ما هو الاكتئاب؟

  • على مستوى النظرة الكلية للحياة هو شعور بالهزيمة أو انعدام الجدوى أو أنه لا يوجد ما يستحق مكابدة المعاناة
  • على مستوى قوى النفس فهو تعطّل لقوة الشهوة، ومن لا يحب ويرغب.. لا يريد أو يعزم
  • على مستوى القدرات الذهنية والعملية فهو تباطؤ في النمو وصعوبة مضاعفة في القيام بما هو اعتيادي، وعدم القدرة على رسم طريق واضح للمستهدفات. والتباطؤ مع الوقت يتحول لتراجع.

ولما كان الاكتئاب يخرّب وظيفة قوة الشهوة عند الإنسان، فإن عمله يشبه شكلا عمل العفة –فضيلة ضبط القوة الشهوية- وقد لا يستطيع غير المنتبه التفرقة بينهما، والفرق يظهر في كون المكتئب غالبا ما يتوقف عن اشتهاء الأمور التي تتطلب سعيا طويلا (المدى المتوسط وما فوق) وفي الغالب يصحب ذلك سلوك تعويضي ما كزيادة اشتهاء الطعام أو السكريات. والزهد الحقيقي -والدين عموما- لا يهدف لجعل الإنسان “أقل”، أقل تفاعلا مع الحياة وحضورا في ميادينها، وإنما لنقل تركيزه وطاقته من الفاني إلى الباقي، من السطحي إلى الحقيقي.

إن في الالتباس الحادث بين العفة والزهد والسلوك الدال على الاكتئاب أو ضعف الهمة أو الإهمال خطر عظيم، لا يمكن تجاوزه إلا بضبط المفاهيم. وقد قيل في تعريف الزهد: الزهد الحقيقي هو أن تملك الدنيا ولا تملكك. أن تسخّرها ولا تسخّرك، أن تعيش فيها ولا تعيش فيك.

ما الحل: الحل أيضا يجب أن يتعامل مع المستويات الثلاثة:

  • على مستوى النظرة الكلية: تكوين الرؤية الكلية وفق منهج معرفي سليم والتخلص من الأوهام والخرافات أيا كان مصدرها. يجب أن يحيا الإنسان لغاية، وإلا سيجد أن وجوده لم يعد له معنى تحت ظروف معيّنة. وقد تكلمنا بتفصيل أكبر عن هذا الجانب في مقال بعنوان “الاكتئاب والعمل”
  • على مستوى القلب:
    • إعادة تنمية الشغف! نحن نتحمّل في سبيل ما نحب، أما التحمّل “خوفا من كذا” يديم الحالة السلبية ويقضي على طاقة الإنسان. اعمل ما تحب حتى تعمل ما تحب وما هو ضروري! أعد اكتشاف نفسك! استقل بفكرك وأحلامك وسعادتك عما تمليه عليك الثقافة المحيطة، تمسك فقط بالثابت اليقيني، وكن شغوفا بالتعلم والتجديد، وابدأ في إبداع عالمك الخاص!! الإنسان يبدأ في الحياة عندما يعيش بشغف.
    • حافظ على عادات صحية مثل الرياضة والنظام المتوازن في الحياة. يجب أن يكون هناك ترويح عن القلب. نحن لسنا مجرّد آلات تحركها البرمجة المسبقة لأداء وظائف محددة باستخدام طاقة مادية فحسب. نحن نقابل تحديات ومواقف جديدة تحتاج منا لشحذ طاقة مستمدّة من قوة أرواحنا.
  • على مستوى القدرات الذهنية والعملية: يجب أن تدرك أنك ستحتاج لما يشبه الحمية الصحية (الريجيم) للتخلص من السلوكيات والأفكار الضارة وبناء بدائل نافعة دائمة، قبل أن تستطيع التحليق من جديد.
    • تعلّم إدارة الموارد بشكل فعال، والتخطيط واختيار الأهداف وتقييم الأداء.
    • دراسة وتطبيق علم المنطق لضبط التصورات والمفاهيم، وإعادة تفحّص كافة الأفكار المؤرقة وضبطها.
    • اكتشاف المهارات وتنميتها وصيانتها
    • تطوير القدرة على الابتكار والتعامل مع المواقف الجديدة
    • الابتعاد عن الوحدة والركود والمثبطات، والتعوّد على المبادرة تجاه الواقع والشجاعة في مواجهة مشاكله.

في حالات الاكتئاب الشديد يكون المريض عاجزا فعليا عن تحريك نفسه دون مساعدة من حالة الاستغراق في التعاسة والأفكار السلبية إلى التصرف بإيجابية تجاه نفسه والواقع، فبالإضافة للخلل الذي يحدث في كمياء المخ، فإن المصاب بالاكتئاب تتأثر شهيته ومناعته ونومه وقدرته على الوفاء بالتزاماته بالسلب، كذلك تعمل الآليات الدفاعية النفسية لديه للتعامل مع الضغط النفسي مما يتسبب في تأثر القدرة على التفكير والتصرف بمنطقية.

ولأنه لا بد من منظم ليوجد ويستمر النظام، ولأن المنظم الداخلي عن مريض الاكتئاب تتأثر كفاءته لدرجة تتفاوت حسب الحالة، ولأن فاقد الشيء لا يعطيه، فإنه يصبح من الواضح وجود حاجة لأن يتعهد المريض ويرعاه ممن لديهم من صفاء الذهن والنظام والدراية بالحياة ما يمكنهم من الإفاضة عليه. لهذا يجب العرض على المختصّين لتحديد البرنامج التأهيلي المناسب حتى يستعيد هذا الشخص عافيته النفسية، وهذه أمور تحتاج لمتخصصين يبذلون وقتا ومجهودا لإتمام دراستهم وتدريبهم، ويجب أن يكون للمعالج اهتمام حقيقي بدراسته ومجاله حتى لا يتحوّل إلى آلة كتابة وصفات علاجية وحسب.[v]

إذا أردنا الوقاية التي تعين على تفادي هذا المسار فيجب تربية أطفال أصحاء نفسيا وفكريا وفقا لمعايير وطرق التربية المدروسة، وبأن يكون المربي نفسه دائم الحرص على التعلّم وتزكية النفس وتوسيع آفاقه. لا مفر من بناء الإنسان وإصلاح الواقع، علاج للمسببات المشكلة الداخلية والخارجية.

إنّ تكرار الفشل قد يعطي للإنسان انطباعا بأنه محدود القدرات أو أنّه سيء الحظ في الدنيا إلخ، كذلك عند حدوث صدمة عاطفية فإن القلب يعاني من حالة فراغ واضطراب، في هذه الحالة فإن مصدر الهم يكون خارجيا سببه تراكم أو حدث مفاجئ أثر على الفكر والقلب، وقد يحدث العكس، فيصاب الإنسان بحالة من اللامبالاة أو كراهية الواقع نتيجة رؤية كلية مثالية تقود لليأس، وتوقعات ورغبات غير واقعية، فتنتقل إلى القلب فتعطّله وتقلل القدرة على التعامل مع الواقع، مهما كان الشخص موهوبا وناجحا. إذن العلاقة تبادلية. وليس منبع كل المشاكل “خارج” الإنسان. وبالطبع لا يجب أن نغفل ذكر أن السبب قد يكون خللا عضويا في الأصل.

أنت الآن تعرف كم هي غالية تلك الابتسامة الجذابة، وكيف أنها انعكاس لصفاء الروح، وتعرف أن اضطراب الروح وتألمها يجعل الابتسامة سمجة ومصطنعة مهما بدت حقيقية للغير، فالإنسان الحقيقي هو الروح بداخل هذا الجسد. لا يجب أن ننسى الحكمة: إنّ الأزمة أو الضربة التي لا تقصم ظهرك وتتمكن من التعافي منها، تقوّيك. وربما في الواقع تكون من أفضل ما ساهم في تكوين شخصيتك؛ المهم أن تفهم وتضبط سلوكياتك لتحصل على المناعة. اعرف كيف تبني سعادتك وتحافظ عليها؛ ولن تتوقف كثيرا عند أطلال سعادة سابقة أو فائتة.

———

[i] القلب المجرّد، والمثال هنا يستخدم القلب المادي كوسيلة شرح.

[ii] ما تفسده السنوات لا تصلحه سويعات أو أيام

[iii] أضعف أساليب الاستنتاج وهو الانتقال من جزء إلى جزء

[iv] قدرة السلسلة على التحمل تتحدد وفقا لقدرة أضعف حلقاتها.. ربما تكون إجابة السؤال في مطلع المقال واضحة الآن

[v] أيضا تكلم مقال الاكتئاب والعمل عن دور العمل في معالجة الاكتئاب

ياسر حسام عطا

مهندس كهرباء

مترجم حر

كاتب ومصحح لغوي

باحث في مشروعنا بالعقل نبدأ بالقاهرة