السرد –عند التأمل– لون من الإقناع السري الذي يعرض الحقائق الموضوعية ذات الطابع الفكري لكن في ثوب حياتي، مُخدِّرًا بذلك آليات الدفاع العقلي، ومُستثِيرًا الطاقات الانفعالية استفرادًا بالوجدان، ليُدخل فيه ما شاء من معانٍ وقيمٍ مجردةٍ في غيبةٍ من صاحبه، انظر السرد الروائي وتجربة المعنى، د.سعيد بنكراد، ص 218.
المعنى –كما سبق أن عرفنا– قسمة مشتركة بين فكرة مجردة وتجليها الشكلي، وليس محصلة خصائصه الفكرية فقط بقدر ما هو حاصل تفاعل هذه الخصائص مع تجلياتها الشكلية، وعليه ندرك مدى تأثير تجليات الفكرة على توجيه معناها.
فالوقائع أيًا كان حقلها لا تدل عبر خصائصها فقط لكن عبر سياقها وطريقة عرضها وزمن هذا العرض، فالرواية أو الحدث في ذاته –دون شخص يرتب أجزاءه واضعًا هذا في دائرة الضوء ومهمشًا لذاك، رابطًا بين حلقاته التي صنعها على عينه– لا يملك أن يشكل قصة تعبر عن دلالته، وهذه الدلالة الناتجة عن تنظيم الحدث أو الرواية هي ما أعنيه بأيديولوجية المعنى.
فنحن مع السرد سواء أكان على مستوى الرواية أو الأعمال الدرامية أم كان على مستوى تأويل الأحداث– لا نلتقي الأفكار بذاتها، لكنها تتسرب إلينا واقعيًا عبر تشكلاتها التي يفترضها باني الرواية أو محلل الحدث، فنحن لم نمسك في يوم من الأيام بقيمة الحق لنتمتع بجمالها لكننا لمسنا آثارها في أفعال الخالق والمخلوق، ومن ثم يكتسب طريق تمثل المفهوم قيمةً لا تقل عن المفهوم في ذاته، بعبارة أخرى: لناقل الفكرة من قصة أو تحليل أثر على الفكرة ذاتها.
وعليه فالأفعال والتشكلات من سرديات روائية أو تاريخية أو أعمال درامية هي البوابة الأولى والأخيرة لتسريب القيم والأفكار التي تمثل حقل اختلاف بين الناس تسريبًا غير محسوس، إنه الصراع على امتلاك الرواية والتأويل، رواية التاريخ وتأويل الحدث، إذ إن من يمتلك قصة وتأويلًا أكثر بقاء ممن لا يمتلك.
هذه الوظيفة هي الوظيفة الأولى للسرد روائيًا كان أم تاريخيًا، فالسرد تسريب لعالم الأفكار التجريدية في صورة وقائع حياتية أو تاريخية تسريبًا غير محسوس، إن السرد ليس بريئًا، فأن تسرد معناه أنك ستصنف وتسمّي وتشكّل، لا من زاوية العقل والتجريد لكن على أرض الممارسة والتجريب، أن تسرد معناه أنك ستفترض –وأؤكد على فكرة “تفترض”– بداية ونهاية، أن تسرد معناه أنك ستتملص من منطق العقل في الظاهر لتُقطّره للمتلقى في الباطن، بإيجاز وفي كلمة واحدة: أن تسرد معناه أنك ستراوغ.
السرد بين عجز اللغة ومنطق العمل العلمي
للسرد حظ من اللغة المكتوب بها في صناعتها للمعنى، فاللغة لا تعرف الحياد الذي يمكننا من رسم صورة محايدة لواقعنا وما فيه من تجارب كما يتوهم كثير من مستخدميها، إذ إن الواقع الخارجي من التعقيد بمكان يجعل اللغة لا تملك أن تنقل هذا الواقع الخارجي في شموله، ولعلنا نلمس ذلك في القصص القرآني، فالقصة الواحدة تروى بطرق مختلفة، كل طريقة منها أكثر خدمةً لسياق الآيات التي احتوتها من الطرق الأخرى، على الرغم من أن القصة في هيكلها واحدة.
فلو كانت اللغة تمتلك الكلمة النهائية في أمر الدلالة بمعزل عن الإنسان المستخدم لها لعُدّتْ نفيًا للإنسان ولوجوده، في حين أن اللغة تفتح إمكانية الوجود أمام الإنسان، وذلك بطرحها طرقًا متعددة في صوغ التراكيب التي تؤدي معانيه كما يشعر هو بها لا كما تفرض هي عليه، وهي طرق لا حصر لها على مستوى بناها السطحية، وإن كانت ممكنة الحصر على مستوى البنى العميقة كما يتصور كثير من النحاة العرب قديمًا والنحويون التوليديون حديثًا.
كأننا مع السرد بإزاء عجز مضاعف، عجز السرد عن أن يكون حياديًا وعجز اللغة المكتوب بها عن أن تكون مطابقة للواقع.
كما أن للسرد في عمقه شبهًا بالعمل العلمي مع فروقات في الشكل، فكلاهما يقوم على نموذج محدد يتضمن موقفًا من الوجود وأحداثه، لكنه يختلف في بنيته وفي مكان استقراره، فهو في العلم نموذج معلن وذو صبغة معرفية ظاهرة، في حين أنه في السرد مضمر وذو بنية انفعالية ظاهرة، النموذج العلمي يستوطن العقل والنموذج السردي يستوطن الوجدان، النموذج العلمي يُبنى على التجريد الفكري، فأنت ترسم معالمه بتحديد في التعريف والتقسيم والتحليل، في حين أن النموذج السردي يُبنى بالتشخيص، بعبارة أخرى وبلغة نحوية: “الفاعل العلمي” بارز و”الفاعل السردي” مستتر ولا يمكن أن يكون محذوفًا، إذ إن المستتر في حكم الموجود.
وعليه فالواقعة الواحدة قد تتعدد دلالاتها بتعدد السياقات التي تدرج ضمنها، هذا الأثر الذي يتركه التداول أو السياق في المعنى يطلق عليه الوقع الأيديولوجي للمعنى، ونستطيع أن نرى مصداق ما أقول في واقعنا المعيش، إذ إنك تجد الواقعة الواحدة تحدث فيأخذها هذا ويؤولها فيجعل معناها مناقضًا تمامًا للمعنى الذي استخلصه آخر منها، إذ إنه قد لون الحدث بلون مختلف أثّر على دلالته، ألا يذكرنا هذا بالسرد الروائي؟ فالسارد لأنه صانع للحدث الفني تراه يقدم الشخصيات مركزًا فيها على جوانب تخدم الحدث الذي يبغي صناعته، ومُغفِلًا لجوانب أخرى لا تخدم هدفه، كما أنه يصوغ الحدث صياغة محددة ومن زاوية معينة تجعله دالًا على ما يريد قوله.
هذا يؤكد ما سبق أن قلته عن المعنى عمومًا، أنه بناءٌ يُبنى بالخبرة وليس شيئًا يُكتشف ويُنقل بالخبر، بالخبرة لا بالخبر، يُبنى ولا يُكتشف.
اقرأ أيضاً:
الأيديولوجيا.. هل يمكن تجنبها حقًا؟
توسيع الزنزانة .. الكتابة والحرية
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا