الميكروفون
نحن نتكلم طول الوقت، نتكلم مع أنفسنا ومع الناس، وذلك أمر طبيعي نفعله كما نتنفس، لكننا حين نمسك الميكروفون نتغير، نشعر بالمراقبة ونشعر بقوة مضافة، فصوتنا المرتفع سيكون قادرًا على التغطية على الأصوات جميعها من حولنا. الميكروفون سوف يجبر الجميع على السكوت لكي يستمعوا إلى المتكلم ذي الصوت المرتفع، سوف ينظرون إليه بعيون مترقبة، وأفكار مختلفة متباينة، منهم المعترض، ومنهم المؤيد.
الذي يمسك الميكروفون يشبه الذي يجلس أمام الكاميرا، فما إن تعرف أن أحدهم يصورك تفقد تلقائيتك، وتتحرك في داخلك نوازع مختلفة وتساؤلات بخصوص صورتك، وكيف ستبدو في عيون الآخرين، وقد تضطرب ويتوه منك الكلام، وهنا نتذكر مقولة الوجوديين: “الآخرون جوهر المأساة”.
ربما لهذا يُطلق المصريون على الميكروفون الحديدة، فهو يشبه المطرقة التي يدق بها القاضي على المنصة ليصمت من بالقاعة، من يمسك الحديدة داخل القاعة يغدو مركز القاعة، يتحكم بها وإليه تتجه عين الكاميرا مباشرة.
وفي أي مكان، ما إن يمسك أحدهم الحديدة تتوجه إليه الكاميرا مباشرة، فهو مركز الأضواء، إنه النجم والنجوم تجلس دائمًا في المنتصف، وعليه أن يكون مستعدًا للكلام وللصورة معًا، وحين يُطلب من أحدهم الكلام فجأة يضطرب من الصورة ومن العيون، ومن المفاجأة!
قديمًا كان الحكام يلجؤون إلى رجل بحنجرة قوية ليكون بديلًا عنهم يذيع في الناس قراراتهم، يسمعهم إياها ليعملوا بها، ومن يخالف القرارات يقع تحت مقصلة الحاكم ويُضرب بالحديدة.
أنت تعلم بالتأكيد أن تضخم الصوت جزء من تضخم الذات، فالحنجرة القوية كالعضلة القوية، سلاح يمكنك به هزيمة أعدائك.
لدي فكرة أشرت إليها أكثر من مرة عن “يوميات” القرآن الكريم، أي الآيات التي جاءت خصيصًا لتعلمنا أشياء عادية، يمكن أن نتعلمها من تلقاء أنفسنا، تحدث القرآن عن الصوت المرتفع باستهجان بالغ، صوت الحمار قبيح ومنكور، وهو قبيح لأنه مرتفع.
استفاد المؤذنون من الميكروفون بلا شك، فلم يعودوا بحاجة إلى صعود سلالم المآذن الطويلة خمس مرات في اليوم، كانت هذه الفئة من الناس تعاني، وتزداد المعاناة أكثر حين يشترط الفقهاء أن يكون المؤذن رجلًا قوي الحنجرة وأعمى أيضًا.
المآذن اليوم محض وحدة جمالية، لقد غابت وظيفتها النفعية، لكنها مهمة في استكمال الشكل، أناقة العمارة تحتاج إليها بالتأكيد.
لكي يتضح الأمر أكثر أفكر في الهمس، متى نهمس؟ أو متى يتوجب علينا الهمس؟
مقالات ذات صلة:
أخلاقيات الاتصال بين عصري الإعلام التقليدي والرقمي
في الصحافة والإعلام توجد قاعدة تقول
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا