مقالات

أن تكون حرا.. عن الحرية المسؤولة والبنَّاءة أتحدث – الجزء الثالث

مفهوم الحرية المسؤولة

مفهوم الحرية لا يمكن فصله عن مفهوم المسؤولية، والمسؤولية عبء شاق، وهو الثمن الذي يدفع لقاء حرية الإبداع والتجديد، وهي الرابطة التي تربط المرء بالعمل المكلف به،

والحرية مُلِحَّة في مطالبها فعندما ينتهي وقت الكلام ويحين وقت القرار، ويتعين البت في القضايا المطروحة والاختيار من بينها _كما يصف ذلك (جان ماري بيلت)_ يعود إلى الظهور إغراء الهروب الغامض،

والرغبة المكبوتة في الانضمام إلى الصفوف، وفي التخفي أو التحلل في آلاف أشكال الحرية الزائفة التي ينزع مجتمعنا إلى محاولة إقناعنا بأنها لا تتمثل إلا في عمل كل إنسان على هواه،

وهو ما وقف أمامه المفكر الجزائري مالك بن نبي بكل حسم، وأطلق عبارته المشورة في وجه طالبي الحرية دون تحمل تبعاتها، فقال: “إننا نريد حقوقنا (حرياتنا) ولو مع جهلنا وعرينا ووسخنا!”.

العلاقة بين الحرية ومجاهدة النفس

“إن أي تلاعب بالناس حتى ولو كان في مصلحتهم هو أمر لا إنساني، أن تفكر بالنيابة عنهم وأن تحررهم من مسؤولياتهم والتزاماتهم هو أيضًا لا إنساني. إن نسبة الإنسانية إلينا تجعلنا ملتزمين.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فعندما وهـب الله الحرية للإنـسان وأنذره بالـعقاب الشـديد، أكد _على أعلى مستوى_ قيمة الإنسان كإنسان، إن علينا أن نتبع المثل الأعلى الذي وضعه الله لنا: لندع الإنسان يجاهد بنفسه بدلا من أن نقوم بعمله نيابة عنه”. علي عزت بيجوفيتش.

إن الحرية لست مجرد إباحة ولا معطى وجودي، وإنما هي من ناحية واجب، وهي من ناحية أخرى كدح متواصل لتجاوز الضرورة عبر مجاهدة النفس لحملها على معالي الأمور ومجاهدة قوى الشر والجهالة في الخارج لإعلاء كلمة العدل والحرية،

عبر المجاهدة (العبادة) والجهاد على اختلاف أبعاده، وبالتعاون مع الآخر، وعلى قدر ذلك يحقق المؤمن كسبه من الحرية.

حق الحرية للآخرين

الحرية المسؤولة

فالحرية كدح متواصل ومجاهدة يومية من أجل تجسيد المُثل العليا (أسماء الله الحسنى) في الآفاق والأنفس.

و”الإنسان هنا ليس حرا وإنما يتحرر بقدر كفاحه ضد قوى القهر داخله وخارجه، وبقدر تحقيقه المثل الأعلى لدستور الأخلاق، كما كشفت عنه أسماء الله الحسنى”.

والناس لا يفرقون بين معان يرددها الإنسان بلسانه مع من يرددونها، وبين معان أخرى يؤمن بها ذلك الإنسان لأنها انبثقت من صميم فؤاده، ففي الحالة الأولى قد يهتف بحياة الحرية والعدالة هتافا تنشق له الحنجرة، حتى إذا ما لاحت في الأفق نذر الخطر لاذ بالفرار،

وأما في الحالة الثانية فهو الذي يحيا فتحيا بحياته الحرية والعدالة، لأنهما يجريان في عروقه مع الدماء، وإذا ما تجهَّمت له سحب الخطر، تصدى لها ليقشعها من سمائه، أو يلفظ الروح دون مسعاه.

ولهذا لا تصدق إنسانا يدَّعي أنه مؤمن بحق الحرية لنفسه وللناس، ثم تنظر إليه في سلوكه الفعلي فإذا هو يبتلع في جوفه كل من عداه لكيلا يبقى حيا على ظهر الأرض سواه، فهو في سعيه كالتنين الجبار الذي تحكي عنه الأساطير بأنه لا يحيا مع الآخرين، بل يحيا بالآخرين طعاما.

الحرية التزام ومسؤولية

إن الحرية التزام ومسؤولية، إنها التزام لا مجرد اختيار، لأن الاختيار هو تبني أحد الممكنين والوقوف عند هذا الحد، في حين أن الالتزام هو التزام بكل ما ينتج عن اختيارنا.

وكلما ازدادت الحرية عمقا ازداد ارتفاعنا على طريق النهضة درجة بعد درجة. “والتكليف والمسؤولية إنما هما في الحقيقة دليل الحرية وامتلاك الاختيار، فالمسؤولية فرع الحرية، فلا مسؤولية بلا حرية”. الأستاذ عمر عبيد حسنة.

والواجب التزام، تشعر به ذاتٌ حرة، وهذا يعني أن الشعور بالحرية يكاد يكون شرطا للشعور بالواجب وتحمُّل المسؤولية. وأكثر الناس شعورا بالحرية أكثرهم شعورا بالواجبات، والفرائض الحضارية _حسب تعبير د. عبد الكريم بكار.

والجمع بين حرية الفرد والتزامه نراه في كل كائن أيا كان نوعه، فكل ما في الكون يَسْبَحُ في فلكه، لكنه في الوقت نفسه يلتزم العلاقة التي تنسق بينه وبين سائر الكائنات.

والحرية ليست شعارا ولا أحاسيس مجوفة، وإنما هي قبل كل شيء إمكانات وظروف معينة تسمح للإنسان بالاختيار، وتُحمِّله مسؤولية هذا الاختيار. “والحرية _كذلك_ لا تتجزأ، فالأغلال التي تقيد واحدا منا تقيدنا جميعا، والأغلال التي تقيد قومي هي أغلال تقيدني أيضا”. نيلسون مانديلا.

صلة الحرية بالتطور الحضاري

إن تنمية رأس المال البشري، الذي يعني تنمية قدرات الإنسان/ المجتمع، لا تأتي قسرا، ولا تتحقق أبدا في ظل مناخ الاستبداد، أو بناءً على قرار سلطوي، كما أن العدل الاجتماعي لا مكان له في ظل نظامٍ يكون فيه الحاكم هو كلمة الحق النافذة، وهو الصواب والمرشد والموجه الهادي.

الحرية آلية تطوير حضاري وهي في الآن نفسه ثمرة متطورة النضج لهذا التطوير، لقد سقطت من زمن أسطورة المستبد العادل، لأن العدل الاجتماعي/ التطوير يأتي في إطار الحرية شرطا.. الحرية التي تعني تحرير الإنسان من ربقة الجهل والمرض،

والحرية فرصٌ لممارسة القدرة من أجل المشاركة الإيجابية الواعية المسؤولة. (أماراتيا صن، التنمية حرية). والنهضة في جوهرها هي وعي الإنسان، وإطلاق ممكناته، وتحرير إراداته.

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

برمجة الحمار: بوريدان ومُعضلة الاختيار

حرية الاختيار

الحرية المسؤولة

والتنازل عن الحرية، تترتب عليه عواقب وخيمة نافية لتكريم الإنسان من أساسه. فما لم تكن للإنسان إرادة حرة مختارة، فإنه يصير مكلَّفا بما هو فوق استطاعته،

وجوهر الاختيار السوي هو: السعي لشكر نعم الله _سبحانه وتعالى_ لأن ذلك هو السبيل إلى تعزيز حرية الاختيار، الاختيار المستنير، العارف، الواعي، أي هي (الحرية) العمل الذي تتضح منطلقاته وأهدافه،

ويصدر عن ذات الشخص وعن قواه العقلية، والنفسية الناضجة المتكاملة، ويبطل فيه تأثير الحاجة، والعادة، وترديد مقولات الآخرين وتأثيراتهم وإيحاءاتهم، خلال الأحكام الأساسية عن الخير والشر.

ويضعنا ذلك أمام ثلاثية أساسية، ذكرها د. السيد عمر وهي: “لا معنى للكون فيما لو خلا من الدين، ولا محل للدين فيما لو خلا الكون من الإنسان، ولا وجود للإنسان فيما لو لم تتوافر الحرية. إن الحرية بذلك قيمة لا يجب النظر إليها في جوهرها على أنها حق.

الحرية والعدالة

فهي بالأساس تكليف”. “كما أنها (أي الحرية) ليست ذات بنية ثورية _كما يحلو للبعض وصفها بذلك_ وإنما هي ثمرة النضج البطيء الذي نحرزه على صعيد تقويتنا لإرادتنا، وعلى صعيد فهمنا لواجباتنا ومسؤولياتنا”. د. عبد الكريم بكار.

وإذا لم تكن نفوسنا قد تهيأت حقا لأن نجعل من الحرية والعدالة دستورا لحياتنا العملية كما نحياها، أفليس من الأجدى لنا أن نبدأ من هنالك؟ أي أن نبدأ من نقطة تقع فيما قبل الحرية والعدالة؟

وأعني بها إرادة الحرية وإرادة العدالة، وإرادة غيرهما من القيم الرفيعة التي نستهدف إقامتها في حياتنا، وإذا لم نستطع تحقيق ذلك في جيلنا الراهن، فلنمد الأمل إلى جيل أبنائنا، حسب تساؤل أحد المفكرين.

حرية النفس والفكر

إن الحرية تُوسِّع مجال الممكن إلى ما لا نهاية من خلال التعمق في أغوار النفس. والقوة هي السلطة تمارس على الغير، أما السلطة التي تمارس على الذات فهي الحرية. “أمَّا قمة الحرية فهي قدرة الإنسان على إلجام نفسه، ليحكمها بدل أن تحكمه”. د. زكي نجيب محمود.

والحرية التي تنبع من الداخل (الباطنية)، حرية النفس والفكر والضمير، هي التي تصنع باقي الحريات، وهي التي تغذيها وتحميها. فإزاحة الغبار والصدأ عن مبدأ “أصالة الحرية وفطريتها” _كما يصفها د. أحمد الريسوني_ هي بمثابة تجديد لإيمان الإنسان بنفسه وبحقيقته وبما وهبه خالقه.

وإزالة التشكيك والتأرجح في الإباحة الأصلية والبراءة الأصلية، هي إنهاء لحالة التكبيل والاعتقال ورفع للآصار والأغلال عن فكرنا وفقهنا وإبداعنا. وكل ذلك في نطاق المشروعية الواضحة والعقلانية الصحيحة، وفي ظل الشعور بالأمانة والمسؤولية.

الحرية كمبدأ أخلاقي

وقبل البدء بقيم الحرية والعدالة وما إليهما مما نطالب به من حقوق الإنسان، لا بد أولا أن نُعدَّ نفوس الناس إعدادا يهيئهم للإصرار على أن يكونوا أحرارا ومنصفين، إذ ماذا يجدي أن تقدم للناس حقوقهم الإنسانية جاهزة معطرة مبخرة كما يقولون إذا كانوا في أعماقهم لا يريدونها؟

إن الإيمان بالحرية كمبدأ أخلاقي لا يعني تحولها الفعلي فورا إلى قانون مُنظِّم لحياة الناس، وإنما يتحول هذا المبدأ إلى واقع بعد ترويض شاق للذات الإنسانية في مسار تاريخي متعرج وقاس أحيانا، “وما أبعد الشقة بين غرس المبدأ ابتداء وتحويله إلى علاقات اجتماعية عفوية انتهاء”. د. محمد الشنقيطي.

الحرية في الإسلام

الحرية المسؤولة

والنضج الحضاري قد يكون شرطا ضروريا لتأهيل الإنسان لمزاولة حق الحرية وخاصة حرية العقيدة _كما يؤكد على ذلك د. عبد الحميد أبو سليمان، لأن أحوال البدائية الحضارية والتخلف الحضاري في بعض صور البداوة والتوحش قد جعل الإنسان في حالة قصور حضاري واجتماعي وذهني يحرمه القدرة على اتخاذ القرار الإنساني المسؤول،

ويحرمه أهلية الحرية، ويحتِّم رعايته لبلوغ أهليتها قبل إعطائه حق مزاولتها وحمل مسؤوليتها، وهذا ما سعى به الإسلام في عصر ظهوره في حق قبائل العرب الصحراوية الوثنية البدائية.

ومن المضامين ذات الدلالة على محورية الحرية التوحيدية في المنظور القرآني، حقيقة أن الأمانة لم تعرض أصلا على الإنسان، بل طلبها هو، حسب ما فهمه الدكتور السيد عمر من قوله تعالى:

“إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا”، فالإنسان مارس الحرية في الحصول على الحرية، ويؤشر ذلك إلى حقيقة أنه لا يستحق الحرية إلا من يتطلع إليها، ويتحمل تبعاتها.

العلاقة بين الإبداع والحرية

والحرية عندما تفهم من جانبها السلبي وحده، أي عندما تُفهم بمعنى التحرر من القيود، ومن القيود السياسية بصفة خاصة، ومثل هذا التحرر واجب محتوم، ولكنه في حال الاكتفاء به، فإن الإنسان لم يكسب من حريته شيئا إلا الشكل الخارجي فقط، فبعد أن كان القيد يغل قدميه أُزيل القيد، إلا أن القدمين ما زالتا عاجزتين عن السير، لماذا؟

يجيب د. زكي نجيب محمود بالقول: “لأن السير يريد هدفا يُوصَلُ إليه، ولأن الوصول إليه يتطلب معرفة بالوسائل، فإذا كان لا هدف هناك، أو كان هنالك الهدف ولا معرفة يستعان بها على خلق الوسائل المحققة لذلك الهدف، إذن فيا خيبة الرجاء!”.

إن العلاقة بين الإبداع والحرية علاقة وثيقة، فالإبداع نِتَاجُ خيال حر، وعقل تتفتح له الآفاق، وإرادة تملك الاختيار (د. أحمد كمال أبو المجد،). ولذلك كثيرا ما يخرج الإبداع من رحم الحرية وينمو في ظلها، فالطاقات المبدعة لا يمكن أن تستنبت في ظل القمع والإرهاب والاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي وغياب الحرية وحقوق الإنسان.

فالإنسان كما يصفه المفكر عبد الرحمن الكواكبي: “يعيش في ظلِّ العدالة والحرية نشيطا على العمل بياض نهاره، وعلى الفكر سواد ليله، إن طعم تلذَّذ، وإن تلهّى تروَّح وتريّض، لأنّه هكذا رأى أبويه وأقرباءه، وهكذا يرى قومه الذين يعيش بينهم.

الحرية المسلوبة

أما أسير الاستبداد، فيعيش خاملا خامدا ضائع القصد، حائرا لا يدري كيف يميت ساعاته وأوقاته ويدرج أيامه وأعوامه، كأنَّه حريصٌ على بلوغ أجله ليستتر تحت التراب”. وهذا الوصف في شقه الثاني، يكاد ينطبق على كثير من النخب في عالمنا العربي.

والعقل إذا كُبِّل وسلبت حريته فلا بد من تحريره وإطلاقه من كل ما يعرقل قيامه بدوره، أو يعوق حركته، وماذا يعني تحرير العقل أكثر من إنقاذه من القيود التي تفرض عليه وتحول دونه ودون عمله الحر؟ وهو ما يقوم به الدين الحق. “ومجرد تقديس الإنسان لعقل غيره فهذا يعني حتما إلغاء عقله هو”. (عبد الحليم أبو شقة).

والذي تأصلت فيه روح العبودية لا يمكن أن يُقدِّر الحرية الصحيحة حق قدرها. فهو يتملَّكُه الهياج والرغبة في التخريب إذا وقعت الفتنة، فإذا فُرِضَ عليه الإرهاب من قبل السلطة فإنه يخضع ويستكين، فالظهر الذي اعتاد على الانحناء يشقُّ عليه الاعتدال، وإذا اعتادت النفس العبودية شقت عليها الحرية، والإنسان المسلوب الحرية، إنسان قاصر عاجز ناقص.

وسائل تنمية الحرية

والحرية كما يتصورها د. زكي نجيب محمود _وهي وجهة نظر معتبرة_ لا تكون إلا لمن يعلم حقائق الميدان الذي يريد أن يكون فيه حرا، والحرية في هذه الحال مرتبطة بمعرفة الميدان الذي يعتبر الإنسان حرا فيه، على شرط أن يقف عند حدود ما ينفع وما لا يضر الآخرين،

فحق الحرية بمعناها الإيجابي المنتج مقصور على أولئك الذين يعلمون، أو هكذا تقضي الحكمة بأن يكون، وعلم الإنسان بشيء معناه حريته إزاء ذلك الشيء، يصوغه كما يشاء ويحركه كما شاء، ومزيد من العلم به هو في الوقت نفسه مزيد من حرية الإنسان.

وعلاج الحرية الواسعة يكون بتنظيمها لا بمصادرتها. كما يقول الشيخ محمد الغزالي، والأخطار التي نخشاها من الحرية الواسعة تعالج بمزيد من الحرية، وتنمية الحرية يشبه تعلُّم السباحة، التي لا يتم تعلمها في الغرف المغلقة، بل يتم تعلمها في الماء،

وكذلك الحرية لا يتم تنميتها نظريا، بل لا بد من السعي لتطبيقها، والصبر بعد ذلك على القصور الذي يترتب من سوء تطبيقها ومحاولة تصحيح قصورها باستمرار حتى تستوي على سوقها، فالحرية ليست شيئا يطلب من الآخرين، إنها شيء يمارس وتقبل تبعاته.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. يحيى أحمد المرهبي

أستاذ أصول التربية المساعد كلية التربية والعلوم التطبيقية والآداب – جامعة عمران. الجمهورية اليمنية.