الحرية مفهوم فلسفي مراوغ، كما يصفها د. جاسم سلطان، يَدخُلُ الناس للكلام عنه من زوايا مختلفة، فهو في أصل وضعه ربما يعني حسيا الخلوّ من القيد، ولكنه حين ينتقل من فضاء الحسي والمادي من الأشياء، إلى فضاء المجرد العقلي يكتسب اتساعا وجوديا.
وهي في وصف جان ماري بيلت _في كتابه عودة الوفاق بين الإنسان والطبيعة_ لفظة مبهمة، فشأنها شأن كلمة الحب التي يختلف معناها تبعا لما إذا كنا نمارسه أم نتخذه مصدرا للإلهام، وشأن الديمقراطية التي يختلف معناها تبعا لما إذا كانت ليبرالية أم شعبية، وشأن الاشتراكية الحافلة بالمعاني والأماني المتضاربة.
وتندرج الحرية في عِدادِ الألفاظ المحوَّرة: فحرية الإباحيين في الرؤية الغربية ليست حرية الليبراليين، وحرية الملوك ليست حرية القديسين، فالأقوياء يستشهدون بها لتحقيق مآربهم، في حين أن المتواضعين، كالرهبان مثلا، يفكرون على العكس من ذلك في خدمتها وفي استحقاقها بحرمان أنفسهم من كل شيء، وبالنسبة لليافع تعني الحرية الحق في انتهاك المحرمات، في حين يرى فيها الفيلسوف الكانطي التزاما صارما بالقانون.
الحق الطبيعي
والحرية ليست ناتجًا من نواتج السلطة، وليست ثمرة من ثمرات النظام السياسي، كما أنها ليست منحة من صاحب السلطان والقوة، يمنحها وقتما يشاء ويقبضها وقتما يشاء، إنها منحة من الله، وهبها الخالق الكريم للإنسان المكرم، فلا يملك أحد مصادرتها أو الانتقاص منها. فهي (أي الحرية) الحق الطبيعي والمدني لكل إنسان، وهي الفعل الأصيل والأسمى للمجتمع السياسي.
وتعشّق الحرية ليس كافيا ليعيش الناس أحرارا، فالحرية في جوهرها هي القدرة على الاختيار، كما يقول د. عبد الكريم بكار، ومن البديهي أن الاختيار يكون معدوما إذا لم تكن هناك بدائل وخيارات. “إن الحرية ليست شيئا إضافيا يودع في عقول المواطنين، بل هي ممارسة أو استجابة واعية نحو العالم من أجل تغييره”. أ. د. سعيد إسماعيل علي.
وقد أورد د. زكي نجيب محمود مقارنة بين أهدافنا من الحرية، والتي حصرناها في (الجانب السلبي) وحده، بمعنى أن تكون المطالبة بالحرية مقصورة على التحرر من قيود تكبلنا في هذا الميدان أو ذاك، بعبارة أخرى أوشكت كل جهودنا المبذولة طلبا للحرية أن تنحصر في فكِّ الأغلال وتحطيم القيود، وهو أمر واجب ومطلوب.
لكن الأغلال كلها إذا فُكَّت، والقيود جميعها إذا حُطِّمت، يبقى بعد ذلك أهم جانب من جوانب الحرية، وهو (الجانب الإيجابي)، الذي يتصل بقدرة الإنسان على أداء عمل معين، إذ ترتبط تلك القدرة ارتباطا وثيقا بمقدار ما عند العامل من معرفة بما يريد أن يؤديه.
مكانة الحرية
“حق كل إنسان في الحرية كحقه في الحياة، ومقدار ما عنده من حياة هو مقدار ما عنده من حرية، والمعتدى عليه في شيء من حريته كالمعتدى عليه في شيء من حياته، وما أرسل الله من رسل وما شرع لهم من شرع إلا ليَحيَوا أحرارا، وليعرفوا كيف يأخذون بأسباب الحياة والحرية، وحتى يستثمروا تلك الحياة وتلك الحرية إلى أقصى حدود الاستثمار النافع، وما انتشر الإسلام في الأمم إلا لما شاهدت فيه من تعظيم للحياة ومحافظة عليها، وتسوية بين الناس فيهما، مما لم تعرفه تلك الأمم من قِبَلِ ملوكها، ولا من أحبارها ورهبانها”. د. محمد سليم العواء.
والحرية تسبق السلطة في الوجود وأولوية الاعتبار؛ الحرية وجدت مع الإنسان منذ ولادته، وجعلت من مكوناته وفطرته، فقد خلق الله الإنسان حرًا وأراده كذلك، وأما النظام السياسي فقد جاء تبعًا للوجود الإنساني من أجل حفظ وجوده وتنظيم حاجاته وتوجيه جهوده، بما يحقق مصلحة العباد في المعاش والمعاد.
فالنظام السياسي جاء ليحفظ حرية الإنسان ويصونها ويوجهها لغاياتها، وينظم ممارستها بحيث يمنع التظالم والتواثب، وينفي النزاع المفضي إلى الفساد والضياع. (بدر الدين بن جماعة).
والإنسان يولد حرًا، ومن أميز ما يميزه عن غيره من الكائنات الأخرى هو حريته، فلا يجوز له ولا لغيره تجاهلها لأن الحرية ليست حقًا بل هي واجب، ولذلك فالإنسان _دون غيره من الكائنات الحية_ يعتبر مسؤولا عن إرادته في الحياة، ولهذا لم يتساهل علي عزت بيجوفيتش في أمر حريته ولم يفرط فيها لأنه يرى في الحرية جوهر الإنسان وقوامه، ويؤمن بأن الحرية منحة من عند الله وأمانة استودعها إياه لا يصح التفريط فيها.
فرض عين
كما أن هناك الكثير من الفقهاء المعاصرين يرون أن الحرية أسمى بكثير من أن تكون وسيلة لشيء آخر، لأنها متصلة بأعماق الكيان الإنساني وشرط للحياة الكريمة والمنتجة، ويعتبر الطاهر بن عاشور (فقيه المقاصد) هو أول من ذكر من المعاصرين أن الحرية يمكن أن تكون مقصدا من مقاصد الشريعة.
وبناء على ذلك يمكن القول _جزما وتأكيدا_ أن الحرية في الأمة المسلمة هي فرض عين، كما جزم بذلك د. ماجد عرسان الكيلاني، وعلى الجميع القيام بها وممارستها وتوفيرها، وحمايتها من الطغيان الداخلي ومن العدوان الخارجي.
وإذا غابت الحرية وقع الإثم على الجميع وذلك لسببين: الأول، إن الحرية سبب رئيسي لنمو القدرات العقلية التي يُفهم القرآن بواسطتها، وتُفهم آيات الله في الآفاق والأنفس، فإذا لم توجد هذه القدرات العقلية اقتصر الإنسان على تلاوة آيات الله في القرآن، وحفظ آيات الله في الآفاق والأنفس دون فهم لمقاصدها النهائية، وتحول كالحمار يحمل أسفارا.
والثاني، أن غياب الحرية يؤدي إلى ضعف القدرات العقلية وضمورها _إن كانت موجودة_ مما يمهد لعودة الصنمية والوثنية والتخلف. فالحرية هي مظهر التوحيد، والتوحيد في جوهره حرية لأنه تحرر من عبودية الأشخاص، والأشياء، والأفكار الخاطئة أو الخرافية.
ومن الأمور ذات الدلالة أن القرآن الكريم جاء خاليا من كلمة الحرية ذاتها، ومتضمنا لمفهوم التحرير كاشفا بذلك أن الحرية تكليف وليست حقا، وأن المجتمع الإسلامي هو مجتمع الواجب.
ويورد القرآن الكريم معظم التكليفات، بلفظ الجمع، كما يشير إلى المكلف في الغالب بصيغة الجمع، بما لذلك من دلالات حول الطابع التكافلي للتحرير وحماية حرية الإنسان. والتحرر هو تحطيم القيود والحرية هي العمل الإيجابي الحر الذي يضطلع به من تحطمت قيوده. “وما أعظم الفرق بين الثورة من أجل الحرية، وبين السعي إلى تعديل ميثاق العبودية!”، كما يقول د. محمد بن المختار الشنقيطي.
الحرية في الرؤية الإسلامية والرؤية الغربية
الرؤية الإسلامية
الحرية في الإسلام من الكليات الحاكمة، بل إن الكثير من العبادات والمعاملات في الإسلام يشترط فيها الحرية، ولا مسؤولية بلا حرية، وعندما تنتفي الحرية يسقط التكليف في العموم. كما أن الإسلام ينظر إلى الحرية على أنها حق إنساني فطري، وأنها عطية إلهية للإنسان لا يجوز العدوان عليها، وأنها هي جوهر إنسانية الإنسان.
كما أن الحرية في المفهوم الإسلامي أساس مناط التكليف الذي لا معنى له من غير أن يكون العبد حرًا في الاختيار، ولهذا لا تكليف على المكره، لأن التكليف مسؤولية، ولا مسؤولية بغير حرية، وإن القيام بالدور المتعيَّن للإنسان أولا: كخليفة لله تعالى في إقامة أمره في عمارة الأرض، وتسخير قوى الطبيعة لمنافع الإنسانية، واستثمارها إيجابيا من غير سرف وابتذال، وثانيًا: كشاهد صدق على نفسه في قيامه بدوره في الاستخلاف وعلى الناس من بعد، أمران لا يمكن تحقيقهما إلا من قبل إنسان مستقل في ذاته، مكرم في نوعه، وله إرادة في الاختيار لا قهر معه.
وفي فلسفة الإسلام، تكون أعلى درجات الحرية حين يصبح الإنسان عبدا لله، فعندها يتحرر من العبودية لمن لا يستحق، بل يصبح عبدا لمن بيده جميع المطلقات، القوة المطلقة، والغنى المطلق إلخ، فيستغني بغناه عن غنى كل غني وبقوته عن قوة كل قوي، فلا يسأل إلا إياه ولا يرجو النفع والضر إلا منه، وعند ذلك يمكن القول أنه لن تبقى هناك حرية لفرد تستعبده الذات والملذات والشهوات، وإن ظن أنه حر بل هو مُسترقٌ لشهواته، فالحرية ليست في أن يفعل الإنسان ما يريد، بل في أن يفعل الصحيح، الذي يحافظ على كمالات الإنسان ولا يحافظ على كمالات الإنسان إلا أن يتصل بصاحب الإيجاد، والإمداد، والإرشاد، الذي بيده الحياة والموت والغنى والصحة والقوة.
الرؤية الغربية
أما الإنسان في إطار الفلسفة الليبرالية والوضعية الغربية، فإنه لا يُحصِّل ولا تعطيه هذه الفلسفة سوى الفكر الانتقائي المجزَّأ والمبعثر، يبحث الإنسان عن ذاته فلا يجدها، فيفرغ ذاته في ذاته، انهماكا في الجزئيات، ثم يتأزم ويفارق حتى جذره العائلي، فالحرية بلا مضمون، والإنسان بلا التزام بشيء، بلا عائلة ينتمي إليها وبلا شريك في الحياة يأوي إليه، وإلى ولد يفرغ عليه أبوته أو أمومته.. “حرية إلى حد الموت الذاتي، إلى حد النفس المفككة، إلى حد التردي والهلاك، ماركس تمنى الخبز فوجده، وفرويد تمنى الجنس فوجده، وأينشتاين تمنى الطاقة فوجدها، وداروين تمنى التطور فوجده، فماذا بعد ذلك! إنها العدمية، إنه اليأس فالانتحار!” أ. د. طه جابر العلواني.
وفي مثل هذا المناخ الثقافي الذي أفرزه الفقه السياسي العلماني الغربي المنقلب على أصول الدين وأغراضه، يتضخم لفظ الحرية بصورة لا مثيل لها بهذا الحجم في الأدب السياسي الإسلامي، وهنا يكمن الفرق بين الرؤية الإسلامية والرؤية العلمانية، فالفرد المؤمن في الرؤية الإسلامية قد خرج أصلا من قهر الاستعباد المادي، حينما آمن بتوحيد الوجود لا أحاديته، فجعل القيمة العلوية للوجود الغيبي، مما جعل الوجود الراهن وجودا دنيويا لا يستحق أن ينقطع أساسا له، بل ينبغي أن يتحرر منه، حسب ما قرر د. التيجاني عبد القادر في مقارنته بين الرؤيتين، والدولة تنشأ في هذا الإطار لا كأداة تمتص حريات الآخرين من الأفراد، وإنما كأداة تنمي قدراتهم على التحرر، وتعينهم على إنجاز مشروع التوحيد، ومن ذلك وحده تستمد مشروعيتها وأسباب بقائها.. وللحديث بقية.
اقرأ أيضاً:
الحرية الشخصية بين التحرر والاستعباد
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.