علم نفس وأخلاق - مقالاتمقالات

العنف المقدس .. الجزء الثاني

مجالات العنف

إذا كانت إقامة مقاربة العنف على أساس “الإيذاء” تعطي العنفَ في مفهومه عمقًا؛ نظرًا لتفاوت مراتب الإيذاء وتعددها ما بين ظاهر وباطن كما سبق بيانه آنفًا، فإن اعتبارَ العنفِ ناتجًا عن “ظلم” و”جهل”، يعطي العنف في ميادين وقوعه ومجالاته تنوعًا وتباينًا.

بيان ذلك أن احتمالات وقوع الإنسان في “الظلم” و”الجهل” المؤسِّس للعنف، متعددة بتعدد جنبات الحياة التي يحياها الإنسان، الأمر الذي يعني تعدُّدًا في “ميادين العنف وأنواعه”، فيكون لدينا “عنف ديني”، و”عنف علمي”، وعنف اجتماعي”، و”عنف تربوي”، و”عنف ثقافي”، و”عنف سياسي”، و”عنف اقتصادي”، إلخ.

مظاهر العنف

بيد أن هذه الميادين المتنوعة لممارسة العنف على تنوعها واختلافها شكلًا ونوعًا، تعود في مجملها إلى مجالين أساسيين، هما: مجال الأفكار والمعتقدات، ومجال الأفعال والممارسات، فهناك عنف يقع في مجال الأفكار والمعتقدات النظرية التي على أساسها يبني الإنسان أفعاله، وهناك عنف يقع في مجال الأفعال والممارسات العملية، والعنف في الأولى يستلزم العنفَ في الثانية، إذ إن مآل الأفكار النظرية أن تتنزل على الواقع العملي ولو طال الزمن.

الظلم أساس العنف

المتأمل في الدلالات اللغوية لكلمتي “الظلم” و”الجهل” يجد أنها تُرجِّح هذا الفهم لمجالي العنف، إذ إن الدلالات اللغوية لكلمة “الظلم” تدور بين معانٍ متعددة، هي: “المنع”، أو “وضع الشيء في غير موضعه”، أو “الجور ومجاوزة الحد”، أو “التعجل”، أو “السلب”، وهي معانٍ، على تنوّعها، أقرب إلى دائرة الفعل منها إلى دائرة الفكر والنظر والاعتقاد.

بعبارة أخرى: الظلم بالأساس صفةُ فعلٍ أكثر منه صفةَ نظرٍ أو تصوّرٍ، وما إطلاقه على الأفكار والمعتقدات إلا باعتبار مآلاتها من أفعال، كأنْ يُقال: هذا تصور ظالم، أي: عاقبته أن يئول بصاحبه إلى أفعال ظالمة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في المقابل تأتي دلالة كلمة “الجهل” لتفيد ما يناقض العلم، وهي بهذا “صفةُ نظرٍ وتصورٍ” بالأساس أكثر منها “صفة فعل”، وما إطلاقها على الفعل إلا باعتبار باعثه من جهل، كأنْ يُقال: هذا فعل جاهل، أي حمل الفاعلَ عليه الجهلُ.

لذلك كان وصف المولى للإنسان في آية تَحَمُّلِ الأمانة في سورة الأحزاب، بهذين الوصفَيْنِ: “ظلومًا” و”جهولًا”، إذ إنّ هذين الوصفَيْنِ قد اختصرا مَدْخَلَيْ الخيانة في تَحَمُّلِ الأمانة، الأول: عملي وهو الظلم، والثاني: نظري وهو الجهل، فقال سبحانه: “إنه كان ظلومًا جهولًا”، الأحزاب، 72.

أنواع العنف

أنواع العنف

هكذا صار للعنف –وفق ما مضى– بعدان، الأول: رأسي يتعلق بعمقه أو مستوى ظهوره، وهذا يتردد فيه العنف بين طرفين هما الظهور والخفاء، والثاني: أفقي يتعلق بميدانه ومجاله، وهذا يتردد فيه العنف بين طرفين هما النظر والعمل، وبين طرفَيْ كل زوجٍ من هذين الزوجينِ –النظر والعمل من جهة، والظهور والخفاء من جهة أخرى– هناك أنواع كثيرة من التصرفات العنيفة التي يختلف فيها حظ النظر والعمل أو حظ الظهور والخفاء.

أي تصرف يقع داخل هذه الشبكة الضخمة عمقًا واتساعًا، يصدق عليه وصف “العنف” بغض النظر عن ظهوره أو خفائه، أو عن ميدانه أو مجاله، طالما أن هذا التصرف اتصف بالإيذاء الناشئ عن ظلم وجهل.

أصالة العنف إنسانيًا

إن الذي يدرك أصالة الظلم في النفس الإنسانية، لا بد أن يقطع بأن العنف ليس مرضًا طارئًا على بني الإنسان بقدر ما هو استعداد طبيعي في النفس البشرية، غذّته معطيات سياقية فأخرجته من حيز الوجود بالقوة في النفس الإنسانية إلى حيز الوجود بالفعل في الواقع المعيش، فكما قال الشاعر:

الظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوسِ فإنْ تجدْ ***** ذا عِفَّةٍ فلِعلَّةٍ لا يظلمُ.

وهذا العنف الأصيل في الطبيعة الإنسانية يشهد له أمران:

تزكية النفس من أهم مقاصد القرآن الكريم

الأول: هو الآيات القرآنية الكثيرة التي تُحذِّر من “النفس” بوصفها سبب كثير من الشرور والآثام التي يقع فيها الإنسان، وأنها لا غنى لها عن التزكية بالعلم والعمل، لتبرأ من كل تلك المثالب.

العنف غريزة لدى الإنسان

الثاني: هو ما نراه في الأطفال الصغار من رغبات التملك، ورفض الاختلاف، وحب المماثلة، والاختزال، فالطفل لديه نزوع عارم نحو تملّك الأشياء والتسلّط عليها، وفي المقابل لديه نفور شديد من المخالفة، وميل قوي للمماثلة، ولذلك هو دائمًا ما يختزل الأشياء في صنف أو صنفين: “أخيار وأشرار”.

ما هذه النزعات وتلك الرغبات الطفولية إلا تجسيد لصفات أصيلة في النفس الإنسانية، تلك الصفات هي الأرض الخصبة التي في تربتها ينشأ الجشع والطمع وحب الذات والحقد والكره والأنانية والمغالبة والسذاجة، تلك الصفات التي تفضي بالإنسان إلى قهر أخيه والتجبر عليه، سواء أكان هذا القهر ظاهرًا أم باطنًا، الأمر الذي يعني أنه لا أحد يُعرّى من منزع العنف، وأن اختلافنا في اقتراف العنف هو اختلاف في الدرجة فقط، إذ إن الحياة بوصفها “فترة اختبار” = “ابتلاء” للإنسان، تجعل احتمالية وقوع الإنسان في العنف أمرًا واردًا على مسرح الوجود الإنساني بنسب متفاوتة بين البشر.

طرق علاج العنف

أنواع العنفإن مردودية معرفة أصالة العنف في النفس الإنسانية متعددة على صعيدي تشخيص العنف ومعالجته، على النحو التالي:

إدراك أن العنف خاصية إنسانية

أولًا: إنّ أدراك “أصالة العنف” في النفس الإنسانية يجعل الحذر من العنف ينبغي أن يصدر من الإنسان، أول ما يصدر، تجاه نفسه قبل أن يكون تجاه الآخرين، إذ إن الإنسان مسكون بالآفات المُهيِّئة للوقوع في العنف.

على قدر ما ينجح المرء في مواجهة “عنف نفسه” يكون نجاحه في مواجهة “عنف الآخرين”، إذ إن قراءة الإنسان للأشياء ومواجهته لها، لا تنفك عن قراءته لنفسه ومواجهته لها، فالإنسان يحضر إلى العالم ومَنْ فيه على نحو ما يحضر إلى نفسه، فعلى قدر نجاحنا في محاصرة عنف أنفسنا يكون نجاحنا في محاصرة عنف العالم.

مواجهة النفس

ثانيًا: إنّ وعينا بأوليّة مواجهة “عنف النفس” وما يسكنها من نوازع التسيّد والتملك، يفرض على الإنسان مراجعةً دائمةً للنفس وما يدخلها من أفكار وتصورات من جهة، وما تأتيه من أفعال وممارسات من جهة أخرى، ومما لا شك فيه أن هذه المراجعة المستمرة للنفس، هي أكبر ضمانة من ذلك العنف الكامن في النفوس.

رفض العنف قولا وعملا

ثالثًا: إنّ الوعي بتجذر العنف في النفس يجعلنا نتواضع قليلًا على “مستوى القول” في موقفنا من العنف، ونكون أكثر حذرًا ويقظة إزاء ممارساتنا على “مستوى الفعل”، إذ إننا قد نقع في العنف فعلًا وإنْ رفضناه قولًا.

السبب العميق لتلك المفارقة في الموقف من العنف، هو أننا على مستوى القول أخرجنا من حساباتنا عنصر النفس ومستوى نضجها العملي في رفض العنف، فنحن على مستوى الفعل يُنصب لنا امتحانٌ يحضر فيه أمران لا يحضران على مستوى القول، هما: الأول: النوازع الشريرة الخفية في النفس والمفضية بها إلى العنف، تلك النوازع التي لم تُهذب في ميدان التزكية وفوق نار الاختبار.

الثاني: الظروف السياقية التي تجرف النفس الإنسانية عن مسارها المفروض وتجعلها تسلك سبيل العنف، وهي ظروف متعددة المشارب ما بين نفسي واجتماعي وأخلاقي واقتصادي وعقلي وعلمي، ولا أقصد بكلامي التسويغ للمخطئ أو التبرير للعنيف، بقدر ما أعني أن نكون في رفضنا للعنف أربابَ أفعال لا أقوال، فلا نكتفي في موقفنا من العنف بمجرد ادّعاء رفضه بالأقوال حتى نُنقِّي أفعالنا منه.

معالجة الأفكار

رابعًا: إن أصالة العنف إنسانيًا، تعني أن العنف ليس حكرًا على دين أو ثقافة أو أمة، بقدر ما هو طريقة للإنسان في مقاربة الوقائع والأفكار، ومن ثم فالعنيف قد تتعدد مرجعياته ما بين شرق وغرب أو سماء وأرض، وهو في الأخير عنيف.

يتبع…

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

ماذا لو لم نغضب أبدا؟

بطون تكاد تنفجر من الجهل!

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د . أحمد عزت عيسى

مدرس بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، قسم النحو والصرف والعروض