مقالات

الحرب الرمزية .. الجزء الثالث

خطابات الرموز بين تضارب المنطوق والمنطق

إذا انتهى بنا الحديث إلى أن للرموز المموهة في دلالتها على معانيها، ظاهرا عاما وباطنا خاصا، وأن الأول غالبا ما يأتي غطاءً للثاني، فإن المشكلة ليست في اتفاق الجميع على انخراطهم في هذه اللعبة من الناحية العملية،

كما يفترض ذلك السؤال المطروح في آخر الكلمة الماضية، ولكن المشكلة في أن الجميع ليسوا على درجة واحدة في الوعي بمقتضيات هذا الانخراط في تلك اللعبة وآثاره.

أصناف أصحاب الرموز

وهو ما يجعل أصحاب الرموز المنخرطة في تلك اللُّعبة في صناعتهم لخطابهم، صنفينِ:

الأول: أصحاب الخطاب القوي المتماسك

يصطنع خطابا يعرف مقتضياته، فيأتي خطابه قويا متماسكا لا يعاني تضاربا بين منطوقه ومنطقه، ذلك التماسك الذي يتمثل في:

أ) بُعْد هذه الخطابات عن الوقوع في تضارب أجزائها، بمعنى أنها في تبنّيها للمعاني السامية لا تتبنّاها على نحو اختزالي، فتراها تُعمل المبادئ الدينية أو العلمية أو الإنسانية على نحو اختزالي يُفقرها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كما أن أصحاب هذه الخطابات في سعيهم نحو القيم المطلوبة، كقيمة الرفاهية، وقيمة الأمن، وقيمة الحرية وغيرها، يدركون أن هذا السعي في النهاية مشروط بقدراتهم من جهة، وتحدياتهم المفروضة عليهم من جهة أخرى.

ولذا فهم ينطلقون في هذا السعي من “قائمة أولويات” تُنظّمها هذه القدراتُ وتلك التحدياتُ، ومن ثم فحظ خطابهم من الوقوع في التضارب قليل، إن لم يكن منعدما، بحسب درجة انضباطهم.

ب) إن سلامة خطاب هذا الصنف من التضارب في بنائه تجعل مآلات تحقُّقِه –في الواقع– آمنةً غيرَ ضارةٍ بالمجموع، وسر ذلك أنه خطاب قام بالأساس على فهم الواقع في شموله، واحترام الوقائع والمتغيرات في تفرّدها.

الثاني: أصحاب الخطاب المتضارب

أنواع الخطاب الرمزي

يصطنع خطابا لا يعرف مقتضياته، فيتناقض منطوقه مع منطقه، فيأتي خطابه متضاربا، ذلك التضارب الذي يتمثل في:

أشكال التضارب في الخطاب

أ) تضارب مكونات بناء الخطاب حيث الإتيان بالشيء ونقيضه، فأغلب الذين يستخدمون الوجه الأول من وجوه الرموز لتغطية الثاني، لا يدركون هذه الحقيقة، فيتصورون الخطاب بمنطوقه ويهملون منطقه، والواقع أن منطوق الخطاب قد يكون إيجابيًّا بَنّاءً، لكن منطقه سلبيٌّ هدّامٌ، وثمة أمثلة كثيرة على ذلك:

خطاب منطقه غير علمي

فقد يكون الخطاب المستخدم من قبل رمز من الرموز، علميا في منطوقه، لكن منطقه غير علمي، وذلك إذا جاء هذا المنطوق مهملا لمبادئ وقيم علمية، لكونها لا تتماشى مع منظوره، ومُقدِّما لأخرى، لكونها تتماشى مع نظرته، على الرغم من أن مراعاة الملابسات والسياقات كانت تقضي بتقديم ما أُخِّر، وتأخير ما قُدِّم.

خطاب يُظهر عكس ما يخفي

كذلك قد يكون الخطاب دينيا في منطوقه المعلن، ولكن منطقه المضمر غير ديني، وذلك إذا جاء هذا المنطوق مُخلِّا بقيم دينية كانت جديرة بالاعتبار، مثل: مراعاة سياقات النصوص أو خصوصية موضع تنزيل النص على الواقع، إلى غير ذلك،

وهو ما يجعل هذا الخطاب غير مُنتصِر للنص الديني في شموليته، بقدر ما اختار صاحب الخطاب من النص ما ينصره هو، فكان منطقُ خطابه المضمر غيرَ ديني، وإنْ كان منطوقُه الظاهر دينيا.

خطاب غير إنساني

كذلك قد يكون الخطاب إنسانيا في منطوقه، ولكنه غير إنساني في منطقه، وذلك إذا ما تمسك بقيم إنسانية كالحريات، على حساب قيم إنسانية أخرى كاحترام الديانات، وكان الأخذ بهذه القيم المتروكة ومراعاتها أولى بالاهتمام مع هذا الإنسان الذي يُوجَّه إليه الخطاب، وهو ما يعني أنه خطاب غير إنساني في منطقه المضمر، لأنه لا يحترم أولويات هذا الإنسان، وإن كان إنسانيا في منطوقه المعلن.

خطاب عنيف

كذلك قد يكون الخطاب مناهضا للعنف في منطوقه المعلن، ولكن منطقه المضمر في غاية العنف، إذ إنه حصر العنف في صور مادية، واستبعد صورا أخرى من العنف، لكونها غير مادية، على الرغم من أنها أشد وطأة وأقوى أثرا من العنف المادي، مثل العنف المعنوي الذي يأخذ صورا عدة، ويتلبس بأشكال مختلفة أكثرها غير مباشرة، ولكنها لا تخفى عند الله وعند عباده.

ب) مجيء مآلات الخطاب ونتائجه على الواقع كارثية مناقضة لمنطوقه، وسر ذلك أنه خطاب قام على أفكار حالمة، لا تراعي فهم الواقع بقدر ما تقوم على نفيه من خلال تبني رؤى مختزلة عنه، لا تنشأ عن احترام الوقائع بقدر ما تزعم ترفّعها عنها، ومن ثم يؤول كل ذلك إلى تدمير الواقع المعيش،

بسبب إهمال أصحاب هذه الدعوات للخصوصيات والمتغيرات، وهو ما جعل كل هذه الخطابات على اختلاف مادتها من دينية إلى إنسانية إلى علمية –في مآلها على الواقع– كارثيةً، لأن منطقها المضمر هو منطق يخالف منطوقها المعلن.

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

تجديد الخطاب الفكري

نتائج كارثية

أنواع الخطاب

وكان الأَوْلى أن تدفع كارثيةُ النتائج هذه مَنْ تولّى كِبَرَهَا إلى مراجعة خطابه وذاته، إلا أنهم تمادوا في غيّهم، فسعى أصحاب هذه الخطابات المأزومة إلى الالتفاف على نتائجها الكارثية والقفز فوقها، فراحوا يمارسون الأهواء من خلف الشعارات الرنانة والدعوات العريضة، وتسلطت الذات على الموضوعات وما تنهض عليها من قيمٍ ساميات،

فغدت الموضوعاتُ مطايا الذات لبسط نفوذها، لا سببا لبث ما تنهض عليه تلك الموضوعات من معانيها وقيمها، ومهد لكل ذلك أن الذات أخذت تخلع تصوراتها على موضوعاتها التي تُجيل فيها نظرها، فتأتي نتائج بحثها ذاتيةً سافرةً تتقنّع بالموضوعية المعيبة.

ومن ثم تتسلط الأهواء على الرموز والخطابات التي تحملها، فتُذبح القيمُ والمبادئُ، ويتكّشف ذلك كله من خلال ممارسات عدة، مثل: ازدواجية المعايير، والنفاق، وسائر الرذائل،

ويصل الأمر إلى حد الخيانة حيث وضع اليد في يد العدو أو الأجنبي بغية تحقيق نصر مزعوم في حرب لا تضر إلا أهلها، إذ إن مآلها هو النيل من وجود أصحابها المادي، ومن ثم تدمير معانيهم وقيمهم.

سراب يحسبه الظمآن ماءً

لتكون الصورة في النهاية هي أننا –مع هذه الرموز وما تتبناه من خطابات– صرنا إزاء مشهد له “منطوق” و”منطق”: “منطوقه” الدعوة إلى قيم سامية ذات طبيعة إنسانية أو دينية أو علمية، إلا أن “منطقه” خوض حرب ضروس،

توظف فيها هذه القيم والمعاني المتفق على نقائها، بهدف حشد الجماهير تحت رايات مُعَمَّيات بغية إعدادها لتكون مادةَ عملٍ ليدٍ غريبة تعبث بها لصالح ذات جاهلة بأهوائها ورؤاها غير المنقّحة.

قد يبدو هذا الكلام –عند الوهلة الأولى– إبحارا بعيدا عن موضوعنا: (الحرب الرمزية)، بيد أنه –عند إمعان النظر– كاشفٌ لقاعها وواقعٌ داخل مجالها، لأن خائضي تلك الحرب يخوضونها على “مركب المعاني”، وتحت “راية القيم”، وعليه فلا بد أن نوضح كيف أن “معانيهم المزعومة” تتهددها الأمراض،

وأن “قيمهم المطلوبة” تتناهش طالبَها الآفاتُ، فتَفسد معانيهم المزعومة، وتنحرف مساعيهم عن قيمهم المطلوبة، وتصير أعمالهم –في الأخير– كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفّاه حسابه والله سريع الحساب.

فمِنْ حق الإنسان أنْ يَحْلُمَ، ولكن ليس مِنْ حقهِ أنْ يُحوّلَ حياةَ الناس وأوطانهم إلى مختبر لمشاريعه غير الناضجة، وأفكاره غير المنقّحة بل المُدمِّرة.

 

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د . أحمد عزت عيسى

مدرس بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، قسم النحو والصرف والعروض