العالم اليوم أصبح الغالب عليه سيطرة المادة والبقاء فيه للأقوى، اختلت فيه كثير من القيم واهتزت معظم الثوابت،
تاهت العقول وأصابها التشتيت واستحوذت عليها الأفكار المغلوطة حتى أصبحت ترى الحق باطلا والباطل حقا،
وباتت الغاية دائما تبرر الوسيلة والسعي وراء الماديات والسلطة والقوة هو السبيل الوحيد لتحقيق السعادة المزعومة
وسط كل ذلك نجد أنه مازال هناك أناس يؤمنون بأن السبيل للسعادة هو بالثبات على القيم ومكارم الأخلاق،
فالصدق والأمانه، الحق والعدل، الرحمة والحب، هي ليست شعارات عفى عليها الزمن ،
فهذه الثوابت و القيم هي أساس الحياة وهي في الحقيقة غايات تستحق أن يحيا الإنسان في محاولة دائمة للعيش بها ومن أجل تحقيقها حتى إن لم يستطع إدراكها في حياته
وكثيرا ما يواجه من يؤمن بقيمة هذه الثوابت في الحياة عنتًا شديدًا في حياته، يجعله يحيا في شعور شبه دائم بالغربة.
القيم والمبادئ تقتضي التضحية
وإن كان وسط حشود الناس فغالبا ما تبدو تصرفاته لمن حوله شاذة وأسلوبه في التعامل مع الأمور فلسفي معقد ولا علاقة له بواقع الحياة من وجهة نظرهم،
وفي كل موقف يتمسك فبه بالمبادئ و القيم ولا يتنازل عنها يسمع من الكلمات أو يرى من النظرات أو الابتسامات الساخرة على وجوه البعض التي تقول له بوضوح
“بلاش فلسفة مزيفة وشعارات فاضية.. انت مش عايش في الدنيا اللي عايشين فيها!” ” العالمانت مقتنع إنك بتصرفاتك هاتغير
؟ لا مش صحيح.. أنت لن تغير العالم!”
والمقصود في هذه العبارة ليس هو ظاهر معناها
لأنه من الثابت للجميع بما لا يدع للشك مجالا أن الإنسان هو المخلوق الوحيد القادر بل والمنوط بتغير العالم الذي يعيش فيه
فهذا جزء من رسالته ومن الأمانة التي حملها منذ بداية الخلق،
إنما المقصود من هذه العبارة أن الإنسان الذي يؤمن بضرورة التمسك بالأخلاق و القيم كوسيلة للتغيير في العالم هو إنسان واهم
لأنه لن يستطيع أن يغير العالم بما يمكله من أخلاق ومبادىء، العالم الذي أصبحت فيه المادة هي القوة المحركة أما الفضيلة فمعطلة..
لا يُعرف الحق بالقوة ولا بالشهرة
ولقد اجتمعت كل الديانات والرسالات التي أرسلها الله للإنسان على مر العصور
والتي تتفق مع العقل أن انتشار الخبيث في المجتمع أيا كان شكله هو ليس دليلا على أنه الأفضل أو الأقدر على البقاء أو حتى الأنفع للبشر،
والإنسان العاقل هو من لا ينخدع بكثرة السيء فيعتبره هو السبيل والطريق للسعادة في الحياة.
و الحياة بكل ما مضى منها وكل ما فيها من تجارب البشر وحضاراتهم وحتى اللحظة التي نحياها الآن
تؤكد أن هذا التصور بأن المبادىء و القيم هي ليست الوسيلة المثلى للتغير هو تصور خاطىء تماما،
فليس أقدر على التغير والارتقاء بالواقع للأفضل من إنسان يؤمن بإعمال قيم العدل والحق والصدق في صلاح حياة البشر على مختلف أجناسهم ومعتقداتهم
والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة.
مارتن لوثر كينج
أول مثال سنقترب منه هو مثال ليس ببعيد،
لمناضل رفض الظلم والتفرقة بين الناس على أساس اللون أو العرق وهو مارتن لوثر كنج،
من طفل يبكي لأن رفاقه من الأطفال البيض يرفضون اللعب معه،
إلى شاب مجتهد متفوق على أقرانه في العلم والدراسة إلى ثائر على الظلم والتفرقة العنصرية،
يحيا وفي قلبه حلم بأنه في يوم ما سيعيش أطفاله بين أمة لا يُحكم فيها على الفرد من لون بشرته، إنما مما تحويه شخصيته،
عاش مارتن لوثر من أجل حلمه وقضيته، ومات دونها فلم يرَ نتيجة سعيه ونضاله التي تحققت ولو بعد حين
عمر بن عبدالعزيز
عمر بن عبد العزيزالمثال الثاني فهو لإنسان غيَّر الواقع والعالم الذي يعيش فيه من الظلم والفساد إلى العدل والمساواة وهو
عبد العزيز أو كما لقبه كثير من المؤرخين “خامس الخلفاء الراشدين“
فبعد انتهاء عصر الخلافة الراشدة قامت الدولة الأموية كأول دولة خلافة تبنى على الملك العضود والتفرقة بين الناس،
فكل ما كان في عصر الخلافة الراشدة من ورع وتقوى وإرساء للعدل والمساواة بين الناس، اختفى بل وانتشر عكسه وضده في الدولة الاموية،
ووسط كل ذلك ولد عمر بن عبد العزيز، ولد ثريا، وعاش أميرا منعما،
فلم تفسده الأموال أو تغريه السلطة فقد كان وعلى مدار حياته ورعا مؤمنا تقيا
ومرت به السنين حتى أراد الله أن يتولى خلافة المسلمين ليبهر العالم بما فعله،
فقد غير الملك العضود الذي أقامه الأمويون على مدار ستين عاما وساد فيه سفك الدماء والظلم والفساد
إلى خلافة عادلة مؤمنة تتمثل فيها كل فضائل عصر الوحي والخلافة الراشدة بأروع ما يمكن أن يكون وأكبر مما يمكن أن يتصوره عقل بشر،
والمبهر في ذلك أن التغيير الذي أحدثه من النقيض للنقيض لم يستغرق من الزمن عشرات السنوات،
بل فقط استغرقه عامين ونصف ليثبت للعالم أن الإنسان بإيمانه بالفضائل و القيم يستطيع أن يقيم العدل وينشره ويرتقى بواقع الناس
ليعيشوا كأفضل ما يمكن أن يكون في هذه الحياة.
العالم يجب أن تحكمه المبادئ و القيم
هؤلاء العظماء وغيرهم الكثير في تاريخ الإنسانية وحاضرها عاشوا بمبادئهم يؤمنون بأنها الطريق للتغيير والارتقاء بالعالم وتغيير واقعه إلى الأفضل،
لم يمنعهم تردى الأحوال أو انتشار الظلم،
أو يخدعهم كثرة الفساد وغلبته في العالم من أن يعيشوا بمبادئهم ويدعون إليها، يعملوا بها ولها،
يسعون ويغيرون بخطوات ثابتة متيقنة أنهم قادرون على التغير
وإن لم يستطيعوا أن يغيروا كل الظروف فهم يزرعون بجهدهم وإيمانهم بذور التغيير التي حتما ستنمو لتغير العالم بأفضل مما كانوا هم أنفسهم يحلمون
ومن كل ما سبق نخلص إلى أن التغيير هو سنة الله في كونه،
والإنسان هو المنوط والمسئول عن إحداث هذا التغيير في العالم والذي لن يتحقق إلا إذا بدأ بنفسه وحررها من الأغلال التي قيد بها عقله وروحه،
ثم عليه أن يمضي في حياته بإيمان وأخلاق ويقين مترجم لأفعال وسلوك وعمل وسعي ومحاولة لا تنتهي أو تنهزم. لأنه أنت فقط من يستطيع – إذا اراد – أن يغير العالم.
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا