أنا هنا أيها العالم.. هل تحول الإنسان إلى سلعة ؟
عن تفاعل إنسان المجتمع التملكي الاستهلاكي مع وسائل التواصل الاجتماعي
عنصران شكل توافرهما عوامل الانتشار غير المسبوق لتطبيق الفيسبوك، وكل عنصر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالآخر.
العنصر الأول: يتمثل في وجود كم هائل من البشر، يحملون شعورًا عميقًا بالنقص وعدم الجدارة، وهم في حاجة دائمة لإثبات جدارتهم (الحقيقية والمزيفة) أمام المجتمع وسلطاته، سواء تعلق الأمر بإظهار الجدارة الدينية أو العلمية أو الجمالية أو المهنية أو حتى الاحتيالية. وقد أتى تطبيق الفيس بوك بالمجتمع أمام صاحب عقدة النقص، مجسدًا في ملايين الحسابات التي تشكل المجتمع بأطيافه وسلطاته كلها وحتى أجهزة مراقبته.
العنصر الآخر: التجسيد الكامل لمجتمع استهلاكي ربحي. تحول فيه الإنسان إلى محض قوة عمل تباع وتشترى (سلعة). بالطبع السلعة بحاجة دائمة لمن يسوقها ولساحة تسويق واسعة، وقد وفر الفيس بوك هذه الساحة، كونه يضم حسابات بشرية متنوعة، لا تقتصر على مجال معين، بل الأعمار والطبقات والمجالات كلها.
صار الفيس بوك وجهة كل باحث عن سلعة، سواء تعلق الأمر بسلعة مادية (حذاء، سيارة) أو سلعة بشرية (زوجة، زوج، راقصة، فنانة راقية أو هابطة، لاعب كرة، عامل).
صار البشر السلع يبحثون عن سلع وسط سوق وعرض وطلب وثراء فاحش وإفقار مدقع.
لم يسلم إنسان من إمكانية تحوله إلى سلعة حتى الأكثر ثقافة ووعيًا. ساحة التسويق الفيس بوكي تثير عقد النقص حتى للواثق من نفسه والراضي بإمكانياته. وذلك لسهولة الوصول إلى جمهور واسع عبر ضغطة زر، كل إنسان سلعة يكمن لديه خوف عميق أن يصير معزولًا وبائرًا، إذا لم يقم بإجراءات التسويق اللازم لنفسه.
وفي الغالب –ورغم محاولاته التسويقية– لن يحصل على شيء في حال عدم امتلاكه موهبة الاسفاف والهبوط والابتذال واللعب على العواطف العابرة والسريعة، التي ينبغي أن تظل عابرة وسريعة، ذلك لأن المجتمع الاستهلاكي لا يأمن لقيم الاستقرار والاستمرارية والترشيد وإلا فقدت أقطاب الرأسمال الأرباح.
المعلم صار يسوق لذاته في سوق تعليمي تحول فيه الطالب إلى عميل والمعلم إلى مندوب مبيعات، بصرف النظر عن جدارة المعلم العلمية، يرتبط التسويق بمداعبة العين والعاطفة والإبهار.
الطبيب تحول هو الآخر إلى سلعة، يسوق لنفسه بألقاب رنانة، باحثًا عن مرضى تحولوا إلى عملاء في سوق ترويجي كبير.
هكذا المرأة السلعة التي تروج لنفسها زوجةً أو حتى عارضةً، تسوق لجسدها في سبيل رقم قياسي للمشاهدات ومن ثم ربح.
التعليم والطب مهن خدمية ترتبط بجسد الإنسان وعقله. إلا أن مجتمع السوق التملكي حوّل جسد الإنسان وعقله إلى سلع قابلة للبيع والشراء، وسط حمى السوق والرغبة في الربح على حساب أي شيء. يأتي ذلك بعد أن تخلت الدولة في المجتمعات التملكية عن دورها في حماية جسد الإنسان وعقله، تحولت إلى وسيط لقوى السوق المحلية والعالمية.
إذا كان التسويق السلعي قد نال أكثر العناصر إنسانية، لن تثير الدهشة الفيديوهات القصيرة، التي تروج للتفاهة والروتين المنزلي واستعراض الأجساد والمحاولات المميتة للإدهاش والإثارة واستجلاب الإعجابات، من أجل ربح أو حتى من أجل تعويض لعقدة نقص. ظهر الفيس بوك لتجسيد مجتمع السوق الافتراضي ليكون في متناول إصبع اليد.
بالطبع لا يمكن لوم التطبيق، في النهاية هو فقط تطبيق إلكتروني يمكن استخدامه لأغراض إنسانية وعلمية سامية. إلا أن استخدامه السيئ جاء مرهونًا بالسياق التملكي التسويقي الواقعي، الذي تشكل عبر تاريخ طويل.
الطفل في حال تربيته وسط أسرة سلطوية، يترعرع على مدى نظر ورقابة أب متحكم وأم متسلطة يعُدّون عليه أنفاسه. مع الوقت يفقد إدراكه لذاته، ويتحول إلى ذات من صنيعة الأب والأم. هذا الطفل لن تكون غايته في الحياة العيش كما يحب بصرف النظر عن رأي الآخرين، بل العكس هو الصحيح، لن يشعر بوجوده إلا باكتساب رضا الآخر (الأب والأم) وموافقتهما، حتى لو تعارض ذلك مع ميوله الأصيلة.
من هنا يتشكل انحراف خطير في الذات الإنسانية، وهو ارتباط التقدير برأي الآخرين، بل أن هذا التقدير له الأولوية القصوى للشعور بالجدارة الإنسانية. الأب والأم في المجتمع التملكي، تمهيد لبقية أقطاب هذا المجتمع سواء تعلق الأمر برأسمالي أو نظام حكم أو أي سلطة اجتماعية وسياسية واقتصادية أخرى.
يتعامل إنسان المجتمع المعاصر الذي تشكلت آليات تقديره لذاته في مجتمع شمولي تملكي مع مجتمع الفيس بوك كأنه أباه وأمه وسلطاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، عليه أن يستعرض ذاته أمامهم، بصرف النظر عن امتلاكه الحقيقي لما يستعرضه، وبصرف النظر عن رضاه الشخصي عن ذاته، بصفته طالب يُتَّهم دائمًا من معلمه بالفشل، ويريد إثبات العكس لذاته ولمعلمه، رغم أن معلمه لا يريد أساسًا نجاحه أو جدارته. هكذا يتعامل الرجل العامل، المواطن، المهمش مع المجتمع الافتراضي ليثبت له العكس.
هكذا تتعامل المرأة، التي تريد أن تثبت جدارتها الجسدية والأمومية والاستعراضية للرجل المالك أو الرأسمالي الباحث عن متعة أو خدمة أو ربح إضافي. من هنا كثافة صور السيلفي، التي يريد إنسان المجتمع التملكي عبرها إثبات حضوره الجميل، الأنيق، المتدين، المتسامح، القوي، المهم، الجدير بالمعرفة. تتنوع الصور وفق حاجة إنسان هذا السياق، التي يريد إثباتها لذاته ومجتمعه. يريد الإنسان تصوير ذاته في الموقف للاستعراض أمام سلطات المجتمع عوضًا عن الاستغراق بكينونته في الموقف ذاته.
لدرجة أن آلام الحزن والفراق دخل فيها أيضًا الاستعراض، كون الإنسان الحزين ضحية، يريد إشعار السلطة بمدى وحدته ومدى مسؤولية الجميع لما وصل إليه. ربما يشعر بالامتعاض لمن لم يعزيه على الشبكة أكثر من شعوره بالامتعاض لمن لم يحضر الجنازة الفعلية. يمكن قياس ذلك في احتفالات الميلاد والحب والزواج، التي صار الاستعراض فيها عامل أساسي، بصرف النظر عن حقيقة هذا الحب أو زيفه، وفي الغالب من يريد استعراض الشيء فهو يفتقده واقعيًا.
هذه النزعة الاستكمالية موجودة أساسًا في المجتمع الواقعي من قديم الأزل، إلا أن تجسد المجتمع الافتراضي بهذه الكثافة حرر هذه النزعة من انتظار الزمان والمكان. المرأة التي تبحث عن زوج على سبيل المثال، لم تعد تنتظر المناسبات الاجتماعية والأعياد لاستعراض جدارتها زوجة. صار بالإمكان تصوير ذاتها صباحًا ومساء ونشر هذه الصور على مدار الساعة.
كذلك الشاب الذي فقد إمكانية تحقيق ذاته في مجتمع لا يعترف بحقوق الإنسان وتكافؤ الفرص، صار المجال أمامه مفتوحًا لحظيًا لاستعراض قوته وأناقته وتدينه وثرائه وحكمته وحنكته. وفي مسرحية الدولة الشمولية إذ المقياس النهائي رضا السلطة، يكفي أن يبعث أي مسؤول إداري بصوره في أثناء العمل حتى لو على سبيل التمثيل، والسلطة تدرك جيدًا المسرحية لكن المهم إثبات الولاء.
وصل الأمر حتى للثقافة والفكر، من لديه عقدة نقص ثقافية ولا يدرك معنى التأمل والتجربة والتفكير الذاتي والدهشة والانعزال، لم يعد يهمه توافر هذه الخصوصيات النفسية، بإمكانه نشر أي محتوى أو حتى سرقته مع صورته متأملًا ومنعزلًا ينتظر الوحي.
النزعة الاستكمالية ترتبط بسياق يعزز قيم التنافس مع الآخر لا التعاون معه. سياق يجد الإنسان ذاته داخله خائفًا ،مهزومًا، منعزلًا، غير مرغوب فيه اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، لذلك يصرخ ليقول للجميع: “أنا هنا أيها العالم!”، وتختلف نبرة الصرخة بقدر حاجة هذا الإنسان وبقدر ما تراكم لديه من عدوانية وقلق.
هناك من يصرخ ليتسول الحب والدفء والحماية، وهناك من يصرخ لينتقم ممن أنكر حقه في الوجود، وهناك من يصرخ ليقصي الآخر ويقول له أنا الأفضل، وهناك من يصرخ ليستجدي رضا السلطة، كطفل يستجدي بذل رضا أمه القاسية التي تقدم له الحب بشروط أكثر قسوة.
إلا أنه في فوضى الصرخات لا يستطيع أحد الانتباه، فضلًا عن أن كل إنسان غارق في مأساته الوجودية.
من العبث اتهام وسائل التواصل في حد ذاتها، سببًا في تعزيز النزعة الاستعراضية وتعزيز ابتداع أقنعة يداري بها الإنسان عقد نقصه وعجزه عن تحقيق كينونته بحرية واستقلال. ومن العبث أيضًا الدعوة لتجنبها أو إلغائها. فالعطب لا يكمن في الوسيلة، التي ربما لم يكن في نية من اخترعها أن يصل التطرف في كشفها للزيف إلى هذا الحد، لكن العطب يكمن في السياق التملكي، وإنسانه الشاذ والعاجز والمشلول.
لذلك فاكتشاف الذات وإنجاز كينونتها، دون خوف ورقابة واستعراض هو الحل، لكنه حل شاق، لأنه يحتاج من إنسان المجتمع التملكي وقفة جادة مع ذاته وتأملها، ومحاولة استرداد وعيه بذاته ومحيطه، فضلًا عن التخلص من القوى الداخلية التي ترهبه كلها، وتجعله في حاجة دائمة لارتداء الأقنعة، والاستعراض أمام السلطة والتذلل لها، بعد دفن ذاته الأصيلة، والشعور بالذنب والعار تجاهها. يرتبط ذلك أيضًا بسياق منفتح، محتوٍ، يتيح الفرصة لإنسانه بتحقيق فرديته بكل استقلال وحرية دون استغلال وقمع وتزييف للوعي.
مقالات ذات صلة:
اجتهادٌ في سر وجود الأخطاء في الكتابات الفيسبوكيَّة
الحرب غير المعلنة بإستخدام وسائل التواصل الإجتماعي
الميراث للمرأة بين حكم العقل وحكم الفيسبوك
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا