مقالاتفن وأدب - مقالات

المدرسة الخاصة ذات الحافلة المليئة بالمظاهر، ولكن بمنزل خاوي

المدرسة الخاصة

أدخل ابنه المدرسة الخاصة من تلك النوعية باهظة التكاليف السنوية، ذات الزي الموحد الأنيق وحافلة المدرسة الكبيرة والتي تعلم العديد من اللغات الأجنبية كالفرنسية والألمانية. وبعد أن أنهى الولد يومه الدراسي الطويل عاد ليجد السائق ينتظره في المرآب في سيارة فاخرة، فقد حان وقت التمرين الرياضي في النادي الرياضي العريق ذي الاشتراك السنوي الكبير والذي لا يدخله إلا صفوة المجتمع. لا يوجد وقت للغذاء مع العائلة ربما؛ فالخادمة أعدت له بعض الشطائر ليتناولها سريعا كي لا يتأخر على التمرين.

يعود من التمرين وهو يشتاق لرؤية أمه وأن يرتمي في حضنها الدافئ أو أن يجلس مع والده ليلعب معه أو يحكي له عن يومه وإنجازاته الرياضية في التمرين اليوم. امتلأت عيناه بالدموع عندما عاد للمنزل ليجد أن الجميع قد ذهبوا لحفلة فارهة في أحد الفنادق الفاخرة وتركوا له في المطبخ العشاء، وعلى المنضدة ورقة يطلبون منه فيها الاهتمام بنظافة المنزل وإنهاء واجب المدرسة والنوم عند تمام العاشرة مساءً.

 اشتياق ما بعد المدرسة

يذهب للمطبخ وقد خيم عليه شبح الحزن والأسى على هذه الحياة الغريبة التي يمر بكل تحدياتها وحده!
نعم لدي كل شيء لكني أشتاق لهذا الإحساس الذي أرى صديقي يشعر به حينما يأتي والده ليأخذه من المدرسة أو عندما تصطحبه أمه للتمرين وتصفق له عندما ينجح في التحديات الرياضية وتستقبله بكوب “الشوكولاتة” الدافيء وبعض الكعك الشهي بعد التمرين ليستعيد قوته، ثم تأخذه  للمنزل بعد أن تمازحه وتتكلم معه قليلا في السيارة وربما تأخذه في نزهة قصيرة تنسيه هم الدنيا ومشاكلها.

وبعد أن يأكل وجبته وحده في هذا المطبخ البارد الخاوي يذهب ليؤدي واجبات المدرسة . تواجهه الكثير من المشاكل في الواجب الدراسي، نعم يستطيع أن يحلها بقليل من التفكير، لكن لا يستطيع أن يمنع عقله من تذكر أحد أصدقائه والذي حكى كيف سهرت معه والدته طوال الليل لتعينه على أداء الواجب بشكل صحيح ولتشرح له المسائل العويصة بطريقة سهلة سلسة جعلته لا ينسى ذلك الدرس مهما طال الزمن. ثم نظر لكتابه بعد أن جال خاطره مع تلك الذاكرة بعيدا ليجد أنه لا يستطيع أن يرى بوضوح الكلام المكتوب، فعيناه مغرورقتان بالدمع الذي قد بلل بعضه صفحات الكتاب أمامه حزنا على هذه الوحدة الخانقة التي تسحق قلبه وتمزقه .

 حرمان رغم الثراء

أنهى الواجب أخيرا ثم ذهب لغرفة الجلوس ليستريح قليلا من عناء المذاكرة، يفتح “التلفزيون” الكبير على برنامجه التلفزيوني المفضل ويحاول البقاء مستيقظا أمام “التلفزيون” الذي أصبح أنيسه الوحيد وجليسه الرفيق في هذه الدنيا القاسية التي حرمته  كثيرا من لذة مجالسة الأحبة. يتذكر هنا قصصًا سردها أصدقاؤه في المدرسة عن اللعبة الجماعية التي لعبها أحد أصدقائه مع عائلته البارحة أو القصة الطريفة التي حكاها لهم والدهم في المساء على العشاء أو أكواب السحلب الدافئ المطعم بالمكسرات وجوز الهند الذي أعددته أم أحد أصدقائه لعائلتها؛   لتقيهم شر البرد في ليلالي الشتاء الطويلة .

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يستطيع أن يطلب كل هذه الأشياء وستجلب له على الفور لكن لن يكون معها تلك الأحاسيس وهذه الذكريات. أحاسيس وقصص تؤرق نومه وتكدر عليه صفو الحياة الذي ينبغي أن يشعر به من كان في مثل تنعمه ورخائه ولا تجعله يستمتع في المدرسة الغالية . ولكنه في الحقيقة يشعر بالحرمان من أشياء أخرى غير السيارة الفارهة والسائق والخادمة والمدرسة الخاصة والنادي الراقي والطعام الشهي، أشياء يستمتع بها وبدون أي عناء مَن هم أفقر منه وأقل في المستوى الاجتماعي. تمنى هنا لو تزول كل تلك النعم والثروات في مقابل لحظة واحدة من تلك  اللحظات التي يسمع عنها ولكن لم يستمتع بها ولو مرة واحدة!

يسهر أمام “التلفزيون” أملا أن يحنوا عليه ويعودوا قبل أن تثقل عيناه بالنوم ولا يستطيع تقبيل أمه وعناق أبيه قبل النوم، يسهر ويقاوم النعاس قدر استطاعته ولكن بلا جدوى. فيسقط على “الكنبة” بعد أن خارت قواه ليلتحف اليأس ويفترش الحزن على هذا اليتم القاسي، ربما أيضا تتساقط على خديه بعض الدمعات الحارقة التي يشاهدها وهي تسقط على وسادة “الكنبة” ليمتصها القماش وتعود كأن لم تكن. كذلك هي صرخاته وآلامه وشكواه لأهله من الإهمال، لا تجدي نفعا ولا تؤدي إلا لتغييرات مؤقتة لا تستمر إلا لأيام معدودة ثم يجف الاهتمام مرة أخرى  كما تجف دموعه على هذه الوسادة .

  نهاية سيئة رغم المدرسة الخاصة

ذهبت الليلة تلو الليلة، وزاد الجفاء تغلغلا في القلب، وزاد الحزن عمقا في النفس في بيتٍ شخَّص السعادة في المادة فقط ولم يهتم بالروح واحتياجاتها. مرت الأيام وكبر الولد فصار رجلا، قد وصل للوظيفة المرموقة والمنصب العالي، لديه كل ما يحلم به: السيارة الفارهة والمال الوفير، الزوجة الجميلة والبيت الأنيق والأبناء الصغار. يأتيه هاتف في مكتب عمله، إنها زوجته تطمئن عليه في العمل وتخبره أن ابنه سيعود من المدرسة في الثالثة وأن لديه تمرينًا في السادسة، ولكنه كان يرجو لو يعود والده ليلعب معه قليلا قبل التمرين.

عادت به الذاكرة في ثواني لذاك الطفل التعيس الذي افترش الوسادة ليسقيها بدموعه الملتهبة على فراق أهله وهم أحياء يرزقون، حاول أن يتفوه بالكلمات التي ستنقذ ابنه من نفس الجحيم الذي كان يعاني منه، لكن في هذه اللحظة دخل عليه مساعده في المكتب ليمرر له بعض الأوراق التي تحتاج لإمضائه ويذكره بالمواعيد الهامة التي على أجندته اليومية، هنا اضطربت نفسه بين حنينه للماضي وطموحه للمستقبل.

ولما غلبت عليه تطلعاته للمنصب والترقية والمال… لم يرد على زوجته إلا بالاعتذار عن المجيء لأنه مثقل بالأعمال طوال الليل. وعاد سريعا لعالمه المتحجر بعد أن غرس هو خنجرا جديدا من الألم في قلب ذلك الطفل البريء الذي وهب كل متع الدنيا ومتاعها ولكن منع عنه أن يستمتع ولو بقبلة من والديه قبل النوم!

اقرأ أيضا:

 يعني اية تربية ؟ ( الجزء الأول ) – ما المقصود بالتربية ؟ وما هو تأثير القدوة ؟

 جبت إيه لحماتك؟ – معاناة العروسة وأهلها مع تقاليد المجتمع

عندما نتآكل من الداخل.. ماذا يفعل بنا الاكتئاب ؟

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

 

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.