أصناف أهل الكتابة
لا يولد أي كاتب أو باحث مكتملا، إنما كعادة الأشياء تولد صغيرة وتكبر مع الزمن، اللهم إلا الحزن، فهو الشيء الوحيد الذي يولد كبيرا ثم يصغر مع مرور الأيام.
وهناك من يكتب عملا وحيدا في حياته، رواية أو كتابا، ثم يخرج من الساحة، زهدا أو اكتفاء أو إفلاسا. وبعض هذه الأعمال يكون مبهرا، ويبدو صاحبه كذكر النحل الذي استنفد كل جهده حتى يصل إلى الملكة فيلقحها ثم يلقى حتفه.
وبعضها يكون مؤشرا على موهبة تولد أو زهرة تتفتح في عالم الإبداع الفني أو الأدبي، لكن هذه الموهبة لم تجد من يرعاها فذبلت، أو أن صاحبها لم يتسم بالدأب، ويمتلئ بالإصرار، ويحتشد بالرغبة العارمة في التحقق، فيمضي في طريقه إلى الأمام، مراكما الكلمة على أختها، والسطر على أخيه، فتتوالى الصفحات، وتكتمل الكتب.
الموهوبون الكسالى
وأتيح لي أن أنصت إلى تجربة واحد من الموهوبين الكسالى، فذات يوم كنت قد كتبت قصة قصيرة عنوانها “تجلي يا ملامح محمد” فازت في مسابقة “القصة والحرب”، وأخرجتها على مكتبي في “وكالة أنباء الشرق الأوسط” التي بدأت فيها عملي الصحفي، فأخذها مني رئيسي المباشر وقتها الأستاذ محمود عبد العظيم، وقال لي: أريد أن أقرأها.
واختلى بنفسه وقرأها بإمعان، وراح يدون ملاحظات على حواشيها، ثم ناداني، ودخل بي في نقد عميق للقصة أذهلني، وأنا الذي لم أعرف عنه سوى أنه محرر أخبار صحفية، وعرفت منه ومن مجايليه أن الناقد العظيم الدكتور محمد مندور كان قد قال له: “أنت خليفتي”، وسألته عن تفريطه في هذه المكانة وتلك النبوءة، فحكى لي عن مشاغل الحياة التي خطفته من عالم النقد الأدبي، وعن الكسل الذي استسلم له، فانتهى إلى ما انتهى إليه.
ومشاغل الحياة تأتي على الكثير من المواهب النسائية في مجتمعاتنا. وقد قابلت في أول عهدي بالمنتديات الأدبية كثيرا من الفتيات، اللاتي كن واعدات بطريقة لافتة، وأخرج بعضهن للنور قصصا أو رواية، ثم اختفين في تعاريج الحياة، بعد أن طغت المسؤولية الاجتماعية _عقب الزواج والإنجاب_ على ما عداها، فابتلعت الوقت والجهد، وربما طمرت بعض الخيال.
مَن صنفه الناس بناء على عمل واحد
ويوجد من يظل طيلة حياته قارئا ومتأملا، ثم يجلس ليكتب خلاصة ما انتهى إليه في عمل وحيد، لكنه قوي وناضج ومؤثر. والمثال الواضح على هذا هو صبحي وحيدة، الذي كان يعمل في اتحاد الصناعات المصرية، وأصدر كتاب “في أصول المسألة المصرية” عام 1950، وهو كتاب لا يزال يلقى تقريظا وترحيبا وتعاد قراءته جيلا إثر جيل، أو على حد وصف صبري أبو المجد في تقديم إحدى طبعاته: “أرى هذا الكتاب من الكتب التي لا تبلى جدتها.. وأعتبر كاتبه واحدًا من أبناء هذا الشعب قال كلمة ارتآها حقا، وكانت في الواقع صادرة عن نفس قوية، وعن قلم جاد ليس له هدف شخصي”.
وهناك من يأتيه إلهام فيكتب عملا عميقا وبديعا، ويستمر في الكتابة، لكن أعماله الأخرى لا تلقى اهتماما يكافئ الاهتمام بعمله الأول، حتى لو كانت أفضل منه، وكأن الناس قد وضعوا كل طاقتهم الإدراكية لإبداعه حيال كتاب واحد، وأن ما جاء بعده مجرد توابع تتراجع قوتها حتى تتلاشى.
والمثل الصارخ على هذا الأديب السوداني الكبير الطيب صالح، إذ إن أيًا من رواياته وقصصه لم تحظَ بما ناله عمله الأول “موسم الهجرة إلى الشمال” في حديث النقاد والقراء عن روعة العمل الأول على مستوى المبنى والمعنى والجمال.
وعانى يحيى حقي من هذه الصورة السلبية، لكن بدرجة أقل من الطيب صالح، إذ ظل الناس ينظرون إليه رغم تراكم أعماله الروائية والقصصية باعتباره الأديب الذي ألف “قنديل أم هاشم” وكانوا يلقبونه بـ”صاحب القنديل”، إلى درجة أنه قد نسب إليه القول “كرهت هذه الرواية”، وانطبق الأمر ذاته على سهيل إدريس حول روايته “الحي اللاتيني”.
ويبدو أن هذه الآفة مستمرة، إذ إن أديبة شابة هي انتصار عبد المنعم، كتبت العديد من الروايات والمجموعات القصصية المتميزة، لكن ما إن يأتي أحد على ذكر اسمها حتى تحال إلى كتابها الذي سطرت فيه تجربتها مع جماعة الإخوان قبل أن تخرج عنها وتستغني عن عضويتها. وقد وصل الحد إلى أن انتصار تقول بملء فيها: “كرهت هذا الكتاب”، وعندها كل الحق، لأنه بات يستخدم، حتى ولو من دون قصد، أداة للتعمية على أعمالها الأدبية المتميزة.
مَن ظن نفسه الأعظم
وهناك من يريد أن يبدأ كبيرا وعظيما ومكتملا، فيمزق كل ما يخطه بنانه، لأنه من وجهة نظره ليس أفضل من السائد والمتاح، ويظل سادرا في هذا الوهم إلى أن توافيه المنية دون أن يكتب شيئا البتة.
وقد قابلت في طريقي أمثال هؤلاء، فما وجدتهم في أواخر أعمارهم إلا نادمين على تفريطهم في الفرص التي أتيحت لهم، وسمعت اعترافاتهم بأنهم قد أخطأوا، حين لم ينشروا ما كتبوه في مقتبل حياتهم الإبداعية أو البحثية، كنقطة انطلاق نحو خط مستقيم يتعزز مع الأيام.
وأتيح لي أن أعرف أحد هؤلاء وهو الأستاذ أحمد طنطاوي الذي كان يعمل أمينا عاما لمكتبة المجلس الأعلى للصحافة، وخرج على المعاش بدرجة وكيل وزارة. وكنت أذهب إلى هناك يوميا وقت إعدادي لدرجة الماجستير، وأنخرط معه في نقاش عميق، فوجدته مثقفا موسوعيا وناقدا كبيرا، لكنه مكتفٍ بالحديث. وسألته عن السبب، لا سيما بعد أن طالعت تعليقاته على أغلفة روايات ومجموعات قصصية أصدرتها الهيئة العامة لقصور الثقافة وقت أن كان هو يعمل بها، فأجابني: كنت أريد أن أبدأ بكتابة نص غير مسبوق، أعلى وأعمق وأجلى مما كتب طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم، وظللت مستسلما لهذه الرغبة حتى مضى العمر.
مَن لم يهتم بجمع أعماله
وهناك من لا يهتم بجمع أعماله أو كتابة ما يحاضره على تلاميذه أو يلقيه في أحاديث ومداخلات، والأبرز في هذا الاتجاه هو المؤرخ الكبير شفيق غربال، الذي كان يجيب من يسألونه: أين كتبك؟ قائلا: “كل واحد من تلاميذي كتاب لي”. وبعض تلاميذه جمعوا محاضرات وأحاديث إذاعية له ونشروها بعد وفاته، وآخرها كتاب: “مقالات لم تنشر لـغربال” للدكتور حسام أحمد عبد الظاهر، في جزئين كاملين، ليرد بعض الاعتبار لرجل قال في حقه أستاذه المؤرخ الإنجليزي الكبير أرنولد توينبي: “لقد تعلمت من غربال أشياء كثيرة”.
والمعادل الموضوعي لغربال في الأدب، إن صح التعبير، هو كامل الشناوي، الذي كتب كثيرا، شعرا ونثرا، أو نثرا مشعورا، وتحلق حوله تلاميذه، وكان كريما معهم، لكن ضنينا ببذل جهد في سبيل حفظ ما خطه بنانه، فجمع تلاميذه بعض أشعاره ومقالاته عقب وفاته، لكن كثيرا منها ضاع في أرشيف الصحف القديمة، ولولا أن كتب بعضهم أشياء عن سيرته الذاتية، ومواقفه الإنسانية، وخفة ظله وذكائه، لسقط الكثير من أثره.
الأغلبية هي تلك التي يتحسن أدؤاها ببذل الجهد، والتجويد والإجادة مع مرور الوقت، وتراكم القراءات والخبرات وتعمق التأملات، وإمعان البصر وتفتح البصيرة. ومع هؤلاء تكون الكتابة _إضافة إلى أنها موهبة متفجرة_ حرفة أو مهنة على صاحبها أن يبحث دوما عما يجعله يتقنها، فالله يحب إذا عمل أحدنا عملا أن يتقنه.
مَن خفى أعماله حتى نضجت
من بين هؤلاء من يفضل حين تنضج موهبته، أن يخفي أعماله الأولى، التي كانت بالنسبة له مجرد محاولات أو مرحلة للتجريب، ولا يعيد طباعتها ونشرها، حتى لا يرى الناس بداياته، ويتعاملون معه في ذروة عطائه.
وهناك من لا يجد أي غضاضة في أن يعيد نشر كتاباته الأولى، لكن بعد أن يعيد صياغتها، على النحو الأفضل، وهو هنا إما أن يكتفي بتجويد الأسلوب دون أي إضافة للأفكار والمعاني والحمولات المعرفية والعلمية، أو يضيف أفكارا جديدة إلى جانب ترصيع الأسلوب وتحسينه وتهذيبه.
ويوجد من يرى أنه من الأفضل أن تنشر كما هي، من دون أدنى إضافة، مع الإشارة إلى زمن نشرها وسياقه، حتى يقيمها الناس في سياقها، بلا ظلم ولا إظلام. وإذا أراد أحد المغرضين أن يستخدمها للقدح في الكاتب أو الباحث فسيجد من يرده إلى جادة الصواب ويقول له: هذا يحسب له ولا يحسب عليه.
والأعمال الأولى لنجيب محفوظ التي لم يتحمس لنشرها في شبابه قرأناها وهو يرفل في مجد أدبي زاه وقد اقترب من التسعين. وكان محفوظ قد نشر في الصحف العديد من القصص القصيرة، جمع بعضها في مجموعته ذائعة الصيت “همس الجنون”، ورأى وقتها أن البقية أضعف من يضعها بين دفتي هذا العمل فأهملها وضرب صفحا عنها، لكن هناك من نبش عليها، وأعاد نشرها في مجموعتي “فتوة العطوف” و”صدى السنين”، وكلاهما يبين الفارق الكبير بين بداية محفوظ ونهايته، ويثبت وجهة نظره التي كان يقولها دوما من أن الجل الأكبر من العبقرية ينبني على بذل الجهد والتجريب والتعلم المستمرين.
وبعض الأدباء والكتاب والباحثين والعلماء والمفكرين والفلاسفة تخلوا عن كتاباتهم الأولى، إذ وجدوا أن نشرها قد لا يضيف إليهم شيئا، بل يمكن أن يتحول من إضافة إلى نقص، ومن مزية إلى عبء. وذلك لأنهم قاسوا ما كانوا عليه بما ارتقوه فوجدوا أن الأول يأخذ من الثاني، أو يظهر أن النضج الذي حصلوه لم يحدث بين عشية وضحاها إنما هو من لحظات الذروة في التمكن والعطاء، والتي أتت بعد عناء وتجريب وتجويد.
مَن خفى أعماله الأولى لتغير مواقفه
والبعض يخفي أعماله الأولى لأنها قد تحمل موقفا أو اتجاها يختلف عن الذي يقف عليه في لحظة الذروة. وهناك من رفض إعادة طباعة أعماله الأولى، وتنصل منها، مثلما تخلى سيد قطب عن الكتب والأشعار والرواية التي كتبها وقت أن كان شاعرا وناقدا أدبيا، بل تخلى عن كتب المرحلة الثانية التي شهدت أعماله الإسلامية المعتدلة، مثل “التصوير الفني في القرآن” و”الإسلام والعدالة الاجتماعية”، وقيل إنه في آواخر حياته أمسك بكتابيه “معالم في الطريق” و”في ظلال القرآن” وقال: “إن هذين هما ما يعبران عني وليس غيرهما”.
وهناك كتب للأستاذ محمد حسنين هيكل أغفلها، ولم يعد طباعتها، لأن ما فيها من مواقف كان مغايرا لموقفه الذي كان عليه وهو في قمة التحقق والمجد والشهرة، والذي ظل عليه إلى الآن.
لكن مثل هذه المواقف غاية في السلبية، لأن القارئ له عقل يفهم وضمير يحكم، ويدرك أن ما يقرأه الآن لكاتب أو باحث معين هو ما خطته يده في سنينه الأولى، وقد يحمد له أنه كافح وجاهد حتى أحدث هذه النقلة في الأسلوب والأفكار، وقد يحمد له أنه لم يتكبر ويزعم أنه قد ولد مكتملا، أو أنه حريص على أن يضرب مثلا وقدوة للأجيال الآنية واللاحقة على أن الكتابة تحتاج إلى تدريب مستمر، وأنها بقدر ما هي موهبة أو عطاء إلهي ولا تخلو بالطبع من موروثات جينية، فهي مهارة يمكن صقلها بمزيد من القراءة والتجريب والتنقيح والتصويب.
اقرأ أيضاً:
يجب أن تسأل عقلك: ماذا يريد أن يقول المؤلف؟
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا