مقالاتقضايا شبابية - مقالات

أزمة الثانوية العامة في التعليم المصري

المجموع العالي ونفسية الطلاب

إنها وللأسف مرحلة الرعب عند جمهور الناس، ومفترق طرق ليس فقط في المستقبل الوظيفي ولكن في الحالة النفسية لدى الطالب ومعيار مهم لتقييم ذاته ونظرته لنفسه، ونظرة الآخرين له! كل عام في فترة ظهور نتائج الثانوية العامة تنقبض نفسي كثيرًا وأشعر بالأسى لإدراكي أن حال آلاف البيوت في همومهم وأحزانهم وحسراتهم هائمون. صحيح أن غيرهم آلاف آخرون عكس ذلك بما حقق أبناؤهم من نجاح وتفوق بالـ “المجموع العالي” كما يتفاخرون،

ولكن هذا المقال لا يوجه الكلمة لهؤلاء تحديدًا -برغم ظني أنه مفيد لهم-، بل لمن دخل الحزن قلبه وسكن، ظنًا منه أن جهوده تلاشت فجأة وأنه حاد عن الطريق المستقيم والمستقبل العظيم بعد الحصول على المجموع المنخفض عما توقعوه.

وبالطبع كذلك لا أوجه كلمتي لمن أهمل متعمدًا واستهتارًا، ولمن ارتخى وتخاذل عن آداء واجبه رغم استطاعته ومقدرته على ذلك.

المنكسرة قلوبهم

بل حديثي للمنكسرة قلوبهم والمرتبكة عقولهم والمتعاظم جلدهم لأنفسهم بعدما أدوا كل ما في وسعهم ولكن لم يُوفقوا لنتائج ترضيهم وترضي أهاليهم، فشعروا بالخذلان والانطفاء والحسرة وأظلمت كل الطرق أمامهم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وسأبدأ بالتساؤل عن سبب تلك الحالة شديدة الكآبة بسبب حصولهم على المجموع المنخفض عما توقعوه وأرادوه، فوجدت أن الأسباب برغم تعددها ترجع إلى سببين رئيسيين وهما: الشعور بانعدام القيمة والفزع من ضياع المستقبل.

فلنتحدث أولًا عن انعدام القيمة:

يعتقد الطالب أن قيمته ترتبط ارتباطًا مباشرًا ومتين بمجموعه، فتتكون نظرته لنفسه وفقًا لذلك وتتكون كذلك نظرة المجتمع له أيضًا وفقًا لنفس الأمر.

فنجد الناس تُقدر من استطاع الحصول على المجموع العالي ودخول ما يسمى بـ”كليات القمة” في مقابل التهاون ونظرة الدونية لمن لم يُوفق لذلك، فتكون نظرة الاحترام والتقدير لديهم مرهونة بمجموع درجاتهم والكلية المسجل بها أسماؤهم.

كذلك نجد الطالب نفسه يُكون نظرته لذاته بناءا على نفس المعيار، فنجده متفاخرًا بنفسه أو في أفضل الحالات راضٍ ومرتاح البال، في حين الآخرون يملؤهم الشعور بالانهزامية الداخلية حتى وإن لم يُظْهِروا ذلك، ولا أعمم بالطبع في الحالتين بل أتحدث عن المعظم.

أما نظرة الناس فيجب أن ندرك شيئان مهمان: الأول أن كليات القمة مفهوم اجتماعي نشأ نتيجة مفاهيم مغلوطة، ولا علاقة له بالواقع، وهو متغير على مر الأزمان، فلا يصح الاتكاء عليه. فالمجتمع يحتاج لتنوع أفراده واختلاف مهاراتهم وقدراتهم والجميع يعي ذلك ولكن البعض لا يعترف.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

والثاني أن قيمة الإنسان الحقيقية لا تُعرّف بوظيفته أو بكليته أو بتعليمه، بل تُعيّن بمدى تحقيقه لإنسانيته من خلال فكره وأخلاقه واختياراته الحرة التي تعبر عن مكنون نفسه، فلا قيمة لشخص نال أعلى الدرجات ودخل أرقى الكليات بمعايير المجتمع الحالي وفكره متدني وخلقه فاسد واختياراته تعبر عن نفس ضالة قبيحة.

لا تبال بنظرة الناس

وأما نظرة الطالب لذاته، فلا يصح كذلك الاعتماد في تكوينها على المجموع فقط لأمرين: الأول أن الحصول على المجموع العالي مرتبط بعوامل كثيرة جدا لا علاقة لها بقيمته أو بذكائه أو بنضجه، بل -في الوضع الراهن- تتدخل فيها ضمائر المصححين للأجوبة، والقدرة على حفظ وتخزين أكبر قدر من المعلومات، ومهارة اجتياز الامتحان حتى وإن لم يتحقق داخل ذهن الطالب أي استفادة نظرية أو عملية منه، ومدى قدرة الطالب على تمالك أعصابه والسيطرة على توتره، ومدى ملائمة الظروف حوله، وقدرات أهله المادية أحيانًا،

والكثير والكثير من العوامل التي تؤثر في التحصيل النهائي للدرجات لا يتحكم فيها الطالب نفسه أصلاً، ولكنه للأسف يُحاسب عليها أشد حساب مادي ومعنوي.

والأمر الثاني أن الوضع الحالي للتعليم نفسه سيئ جدًا ولا يعتبر منهجية حقيقية لبناء الفهم وصناعة الإنسان، بل ينصب الاهتمام على بعض العلوم والمعارف المادية والتي تُعرض بشكل خاوٍ من المعنى والتطبيق “عقيم” مع إهمال شديد للمعنويات كالمعارف الأخلاقية والتربوية والمهارية والفكرية رغم أهميتها وأولويتها في بناء الشخصية والعقلية.

فلا صحة -عزيزي الطالب الحزين- بأن قيمتك مرهونة بمجموعك، ولا تبالِ بنظرة الناس السطحية للأمور.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ثانيًا: الفزع من ضياع المستقبل

الخطوات المستقبلية الحياتية لا تنحصر -رغم محدوديتها بقرارات المجتمع وقوانينه- على نهاية واحدة، فالمجتهد يحقق خطوات تقدمية مهما كان مكانه إن بذل فعلاً مجهود مناسب لهدفه وسعى له بتخطيط واعٍ وتنظيم.

فلا صحة أبدًا أن الخطوات المستقبلية تنقطع بالدرجات المنخفضة، ولا بكلية معينة أو مجال معين، بل هذا حجة للكسول المتراخي.

لا ننكر تأثر المستقبل الوظيفي في بلادنا بالثانوية العامة طبعًا، ولكنها لا تؤثرعلى المصير، كيف ذلك؟

المشكلة أن الناس تخلط بين الوظيفة والمصير وكأنهم واحد، وهما ليسا كيان واحد بالتأكيد.

الوظيفة لا تحدد بالضرورة مصير الفرد، وإلا لكان كل المعلمين لهم نفس المصير أو كان كل العمال لهم نفس الوجهة، ولكان كل الأطباء والحرفيين والفنانيين لهم نفس خط النهاية، وهذا بالبداهة أمر غير صحيح، هذا إن اعتبرنا أن المصير هو خطوات ونتائج المستقبل في هذه الحياة فقط.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مصير الإنسان وغاية وجوده

ولكن المصير كلمة عميقة تحتاج أن نتناولها بمعنى قيمي وليس فقط المعنى المادي المعتاد لها من وظيفة وزواج وإلخ، وهو متعلق بالرؤية الكونية للإنسان أي برؤيته التفسيرية للحياة والواقع وما ورائهما، فالرؤية الإلهية مثلاً تُقر بوجود حياة أخرى بعد هذه الحياة، وهي الأهم ومصير الإنسان الحقيقي يكون مقامه في تلك الحياة الأخرى وليست هذه الحياة الضيقة الصغيرة.

فمن السذاجة إذن اعتبار أن مصير الإنسان يتحدد بناء على درجة امتحان فقط، بل الأمر أوسع من ذلك بكثير.

كذلك لا يصح اعتبار خطوات معينة فقط هي النجاح مثل تأسيس شركة أو تحقيق لقب وظيفي مرموق أو استثمار ضخم أو نيل شهرة أو جمع أموال، فهذه نظرة قاصرة لا يقبلها العقلاء، فالنجاح ليس فقط تحقيق الذات بالمعنى الشهير، وليس القدرة على اجتياز أكبر عدد من الخطوات والمراحل الإدارية أو الوظيفية بوقت قصير، وليس إتقان مهارات ببراعة وخفة، بل النجاح هو تحقيق غاية وجود الإنسان من خلال أي من تلك الأشياء ولو بالقدر البسيط.

وغاية وجوده أن يُحقق إنسانيته ويحقق تكامله، بأن يحفظ عقله من الفكر الخاطئ الذي يضله ويحفظ قلبه من شوائب تحرقه وتملؤه ضغينة وحقد، وأن يسلك طريقه الخاص لتحقيق الغاية الأكبر وهي السير لوجهة الحق والحقيقة، فمثلاً يختار وظيفة مناسبة لحياته وظروفها ويقدم من خلالها عملاً مفيدًا.

وهذا العمل يساعده على التكامل الأخلاقي، فلا غش ولا سرقة مثلاً، ولا علاقات مؤذية، ولا ظلم أو جور على الناس.

وهذا يمكن تحقيقه في أي طريق شريف كان، فأين الحكر على المستقبل إذن؟ إنه في عقولنا فقط، وهو ما يجب أن نتحرر منه وندرك أن بناء المستقبل لا تحدده ورقة امتحان أو كلية بعينها، بل تحدده إرادة الإنسان وفعله.

ليست النهاية يا صديقي

وأخيرًا، لمن هو متبني للرؤية الإلٰهية، الإله عادل وأفعاله كلها حكيمة، وما على المرء إلا السعي والاجتهاد بعد الفهم الصحيح، فإن لم توفق فلعل الله يرى نهاية سيئة في الطريق الذي تريده فمنعه عنك، ولعله يريد منك شيئًا آخر أعلى قيمة مما تخطط له فيسره لك، فهدئ من روعك واحسب خطواتك وامض في طريقك يا عزيزي ولا تركن إلى ما يركن إليه المجتمع في تلك النقطة، فالثانوية العامة سواء انتهت بمجموع عالٍ أو منخفض فهي ليست النهاية، وإن لم تدرك كلمتي الآن فغالبًا ستدركها مع الأيام، لأنها حقيقة.

الثانوية العامة ليست كل شئ، وليست النهاية إلا إن قررت أنت ذلك.

أقرأ أيضا:

ثلاثية فساد التعليم

تنشئة الأجيال الجديدة وعملية التعليم

ميزان العلم

 

 

هبة علي

محاضر بمركز بالعقل نبدأ وباحثة في علوم المنطق والفلسفة

مقالات ذات صلة