أرسطو: المؤسس الأول لعلم الحاسوب .. الجزء الرابع
جاءت الضربة القاضية عندما أثبت «تورينج» و«ألونزو تشيرش» على نحوٍ مستقل أنه لا يمكن وجود خوارزمية تحدد ما إذا كانت الجملة الرياضية العشوائية صادقة أم كاذبة. فعل تشيرش ذلك بابتكار نسق مختلف تمامًا يسمى «تكامل لامبدا» (Lambda Calculus)، وهو نسق صوري في المنطق الرياضي يعبر عن الحوسبة القائمة على التجريد والتطبيق باستخدام المتغيرات المقيدة والاستبدال. وقد ألهم هذا النسق لاحقًا بعض لغات الحاسوب مثل «ليسب» (Lisp). وكانت الإجابة على مشكلة القرار بالنفي.
أما «تورينج» فقد جاءت رؤيته الرئيسة في القسم الأول من ورقته البحثية المشهورة «بخصوص الأرقام القابلة للحساب مع تطبيق على مشكلة القرار»، إذ أنشأ أولًا نموذجًا رياضيًا لما يعنيه أن يكون جهاز حاسوب (اليوم تُعرف الآلات التي تناسب هذا النموذج باسم «آلات تورينج العالمية» (Universal Turing Machines)). يقول عالم المنطق والحاسوب «مارتن ديفيس» (Martin Davis): «لقد عرف تورينج أن الخوارزمية تحددها عادةً قائمة من القواعد التي يمكن لأي شخص اتباعها ميكانيكيًا بدقة، مثل وصفة في كتابٍ للطبخ. لقد كان قادرًا على تبيان أن مثل هذا الشخص يمكن أن يقتصر على عدد قليل من الإجراءات الأساسية البسيطة للغاية دون تغيير النتيجة النهائية للحوسبة، ومن ثم بإثبات أنه لا توجد آلة، تؤدي تلك الإجراءات الأساسية فقط، يمكنها تحديد ما إذا كانت النتيجة المقترحة ناجمة عن مقدمات معينة باستخدام قواعد فريجه أم لا، فقد كان قادرًا على استنتاج أنه لا توجد خوارزمية لمشكلة القرار، وكناتج ثانوي، وجد نموذجًا رياضيًا لآلة حوسبة متعددة الأغراض».
بعد ذلك، أوضح تورينج كيف يمكن تخزين أي برنامج داخل الحاسوب إلى جانب البيانات التي يعمل عليها. وبلغة اليوم، نستطيع القول إنه اخترع بنية «البرنامج المُخزَّن» (Stored–Program)، التي تقوم عليها معظم الحواسيب الحديثة:
قبل تورينج، كان الافتراض العام أنه عند التعامل مع مثل هذه الآلات، فإن الفئات الثلاث: الآلة والبرنامج والبيانات ، لا تعدو أن تكون كيانات منفصلة تمامًا. كانت الآلة موضوع مادي بحت، ونحن نُسميها اليوم «أجهزة». وكان البرنامج بمنزلة خطة لإجراء عملية الحوسبة، ربما تتجسد في بطاقات مثقوبة أو توصيلات للكابلات في لوحة توصيل. وأخيرًا، كانت البيانات هي المدخلات العددية، لقد أظهرت آلة تورينج العالمية أن التمييز بين هذه الفئات الثلاث محض وهم!
كان هذا أول دليل صارم على أن أي منطق حاسوبي يمكن تكويده في عتاد مادي (Hardware)، يمكن أيضًا تكويده في برمجيات (Software). وسُميت البنية التصميمية (Architecture) –التي وصفها «تورينج»– لاحقًا باسم «هندسة فون نيومان» (Von Neumann Architecture)، لكن المؤرخين المعاصرين يتفقون عمومًا على أن «تورينج» كان أول من دشنها، وهو ما فعله عالم الرياضيات والحاسوب المجري – الأمريكي «فون نيومان» نفسه على ما يبدو.
على الرغم من أن «برنامج هيلبرت» كان فاشلًا على المستوى التقني، فالجهود المبذولة على طول الطريق أظهرت أنه يمكن تشييد كثرة من البناءات الرياضية باستخدام المنطق. وبعد رؤى «شانون» و«تورينج» –التي أظهرت الروابط بين الإلكترونيات والمنطق والحوسبة– أصبح من الممكن الآن استخدام هذه الآلية التصورية الجديدة في تصميم الحاسوب.
في أثناء الحرب العالمية الثانية، وُضِع هذا العمل النظري موضع التنفيذ، عندما جندت المختبرات الحكومية عددًا من نخبة علماء المنطق، ومن هؤلاء «فون نيومان» الذي انضم إلى مشروع القنبلة الذرية في لوس ألاموس (Los Alamos)، إذ عمل على تصميم الحاسوب لدعم البحوث الفيزيائية. وفي سنة 1945، كتب مواصفات «إدفاك»: الحاسوب الإلكتروني التلقائي المتغير المنفصل (Electronic Discrete Variable Automatic Computer – EDVAC)، وهو أول برنامج مُخزَّن، أو حاسوب قائم على المنطق، الذي يُعد عمومًا دليلًا مصدريًا نهائيًا لتصميم الحاسوب الحديث. كذلك انضم «تورينج» إلى وحدة سرية في مبنى «بليتشلي بارك» (Bletchley Park)، شمال غرب لندن، إذ ساعد في تصميم أجهزة الحاسوب التي كان لها دورٌ فعَّال في فك شفرات الرموز الألمانية. وكانت مساهمته الأكثر ديمومة هي تصميمه لمحرك الحوسبة التلقائي (إيه سي إي) (Automatic Computing Engine – (ACE، وهو حاسوب رقمي إلكتروني يتضمن برنامجًا مُخزَّنًا للأغراض العلمية. لم يكن الذكاء الاصطناعي بعيدًا عن أفكار «تورينج»، فقد وصف نفسه بأنه «يبني دماغًا»، وأشار في رسالة له إلى أنه «مهتم بإمكانية إنتاج نماذج لعمل الدماغ أكثر من اهتمامه بالتطبيقات العملية للحوسبة».
بوصفهما من حواسيب الجيل الأول التي تعتمد على المنطق البولياني والبنية التصميمية للبرامج المُخزَّنة، كان«إدفاك» و«إيه سي إي» متشابهين في عديدٍ من النواحي، لكن كانت أيضًا ثمة اختلافات بينهما مثيرة للاهتمام، وقد مهدت هذه الاختلافات للمناقشات الحديثة بشأن تصميم الحاسوب. كانت تصميمات «فون نيومان» المفضلة مشابهة لمعالجات «سي آي إس سي» (CISC) المعقدة الحديثة، أو حاسوب مجموعة التعليمات المعقدة (Complex Instruction Set Computer)، وهو حاسوب ذو مجموعة من التعليمات والأوامر المعقدة، يؤدي فيها الأمرُ الواحد كثرةً من العمليات المنخفضة في المعالج المركزي، إذ توفر هذه المعالجات وظائف غنية في العتاد. أما تصميمات «تورينج» فكانت أشبه بمعالجات «آر أي إس سي» (RISC) المخفضة الحديثة، أو حاسوب مجموعة التعليمات المُخفضة Reduced Instruction Set Computer))، وهو حاسوب ذو مجموعة تعليمات تسمح للمعالج الدقيق أن يكون له عدد دورات أقل لكل أمر بالمقارنة مع مجموعة الأوامر الحاسوبية المعقدة، وهذه المعالجات من شأنها أن تقلل من تعقيد العتاد وتدفع بمزيد من العمل إلى البرمجيات.
اعتقد «فون نيومان» أن برمجة الحاسوب ستكون مهمة مكتبية شاقة، وعلى النقيض من ذلك، ذهب «تورينج» إلى أن برمجة الحاسوب يجب أن تكون عملًا رائعًا للغاية، ولا داعي للخوف من أن تُصبح عملًا شاقًا، لأن أية عمليات ميكانيكية خالصة قد تُحوَّل إلى الآلة ذاتها. ومنذ أربعينيات القرن العشرين، أصبحت برمجة الحاسوب أكثر تعقيدًا على نحوٍ ملحوظ. الشيء الوحيد الذي لم يتغير أن هذه البرمجة ما زالت تعتمد في المقام الأول على المبرمجين الذين يحددون القواعد التي يجب على الحواسيب اتباعها. ويمكن القول –من الناحية الفلسفية– أن برمجة الحاسوب اتبعت تقليد المنطق الاستنباطي، وهو فرع المنطق الذي ناقشناه أعلاه، الذي يتعامل مع التلاعب بالرموز وفقًا للقواعد الصورية.
في العقد الماضي أو نحو ذلك، بدأت البرمجة تتغير مع تزايد شعبية التعلم الآلي (Machine Learning)، الذي يتضمن إنشاء أطر للآلات للتعلم بالاستدلال الإحصائي (Statistical Inference). وقد أدى هذا إلى جعل البرمجة أقرب إلى الفرع الرئيس الآخر للمنطق، وهو المنطق الاستقرائي (Inductive Logic)، الذي يعالج الاستدلال على القواعد من حالات محددة.
اليوم تستخدم تقنيات التعلم الآلي الواعدة «الشبكات العصبية» (Neural Networks)، التي اخترعها لأول مرة في أربعينيات القرن العشرين كل من عالم فسيولوجيا الأعصاب الأمريكي «وارن ماكولوتش» (Warren McCulloch)، وعالم الأعصاب والنفس الأمريكي «والتر بيتس» (Walter Pitts)، وكانت فكرتهما تطوير حساب للخلايا العصبية، مثل المنطق البولياني، يمكن استخدامه لبناء دوائر الحاسوب. وقد ظلت الشبكات العصبية مقصورة على فئة معينة حتى عقود لاحقة عندما دُمِجت مع التقنيات الإحصائية، مما سمح لها بالتحسن مع تغذيتها بمزيدٍ من البيانات. وفي الآونة الأخيرة، مع تزايد مهارة أجهزة الحاسوب في التعامل مع مجموعات كبيرة من البيانات، أنتجت هذه التقنيات نتائج ملحوظة، من المرجح أن تعني البرمجة في المستقبل تعريض الشبكات العصبية للعالم والسماح لها بالتعلم!
سيكون هذا بمنزلة الفصل الثاني المناسب لقصة أجهزة الحاسوب. لقد بدأ المنطق عند «أرسطو» وسيلةً لفهم قوانين الفكر، ثم ساعدت هذه القوانين في إنشاء آلات يمكنها التفكير وفقًا لقواعد المنطق الاستنباطي. واليوم، يُجمَع بين المنطق الاستنباطي والاستقرائي لإنشاء آلات قادرة على التفكير والتعلم. إن ما بدأ، على حد تعبير «بول»، ببحث «يتعلق بطبيعة العقل البشري وتكوينه»، يمكن أن يؤدي إلى خلق عقول جديدة –عقول اصطناعية– قد تضاهي عقولنا أو حتى تتجاوزها في يوم من الأيام!
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا