مقالات

أرسطو: المؤسس الأول لعلم الحاسوب .. الجزء الثالث

لم تُتح الفرصة لليبنتز لتطوير لغته العالمية أو الآلة المناظرة لها (على الرغم من أنه اخترع آلة حاسبة بسيطة نسبيًا، عُرفت باسم «جدول الحسابات المتدرج» (Stepped Reckoner)). لكن جاءت أول محاولة ذات مصداقية لتحقيق حلم «ليبنتز» سنة 1879، عندما نشر الفيلسوف الألماني «جوتلوب فريجه» (Gottlob Frege) أطروحته المنطقية التاريخية «تدوين المفاهيم» Begriffsschrift))، المستوحاة من محاولة «بول» لتحسين منطق «أرسطو». طوَّر «فريجه» نسقًا منطقيًا أكثر تقدمًا (وما المنطق الذي يُدرَس في محاضرات الفلسفة وعلوم الكمبيوتر اليوم: منطق الدرجة الأولى (First–Order Logic) أو المنطق الحملي (Predicate Logic)، سوى تعديل طفيف لنسق «فريجه» المنطقي). لذا يُعد بصفة عامة أحد أهم فلاسفة القرن التاسع عشر. ومن بين أمور أخرى، يُنسب إليه الفضل في تحفيز ما أسماه الفيلسوف الأمريكي المعروف «ريتشارد رورتي» (Richard Rorty) «التحول اللغوي» (Linguistic Turn) في الفلسفة. وكما كانت فلسفة التنوير مهووسة بمسائل المعرفة، أصبحت الفلسفة بعد «فريجه» مهووسة بمسائل اللغة، وكان من بين تلاميذه اثنان من أهم فلاسفة القرن العشرين: «برتراند راسل» و«لودفيج فيتجنشتاين» (Ludwig Wittgenstein).

الابتكار الرئيس في منطق «فريجه» يتجلى في تمثيله البنية المنطقية للغة العادية على نحو أكثر دقة، إذ كان فريجه –من بين أمور أخرى– أول من استخدم الأسوار المنطقية (Quantifiers) (لكل، يوجد)، وفصل الموضوعات عن المحمولات. وكان أيضًا أول من طوَّر ما نعده اليوم تصورات أساسية في علم الحاسوب، مثل الدالات المرتدة (Recursive Functions) والمتغيرات ذات النطاق والربط Variables with Scope and Binding)). إن لغة فريجه الصورية –ما أسماه «نص التصور» Concept–Script))–   تتكون من رموز لا معنى لها يتلاعب بها عن طريق قواعد محددة جيدًا. وتُعطى اللغة معنى فقط عن طريق التفسير، الذي يُحدد على نحوٍ منفصل (سيُطلق على هذا التمييز لاحقًا اسم «السينتاكس» (Syntax) مقابل «السيمانطيقا» (Semantics)). وقد أدى هذا إلى تحويل المنطق إلى ما أطلق عليه عالما الحاسوب البارزان «ألن نيويل» (Allen Newell) و«هربرت سيمون» Herbert Simon)) «لعبة الرمز» (The Symbol Game)، تلك التي تُلعَب برموز لا معنى لها وفقًا لقواعد تراكيبية بحتة معينة. هكذا تحقق التقدم: بالابتعاد عن كل ما يبدو ذو صلة بالمعاني والرموز الإنسانية. وكما قال «برتراند رسل» ذات مرة مازحًا: «يمكن تعريف الرياضيات بأنها الموضوع الذي لا نعرف فيه أبدًا ما نتحدث عنه، ولا ما إذا كان ما نقوله صحيحًا»!

كانت النتيجة غير المتوقعة لعمل «فريجه» اكتشاف نقاط الضعف في أسس الرياضيات. على سبيل المثال، كتاب «العناصر» لإقليدس –الذي كان يُعد المعيار الذهبي للدقة المنطقية لآلاف السنين –  تبين أنه مملوء بالأخطاء المنطقية. ولأن «إقليدس» استخدم كلمات عادية مثل «خط» و«نقطة»، فقد خدع هو وغيره من القراء –عبر قرون– أنفسهم بوضع افتراضات بخصوص الجمل التي تحتوي على تلك الكلمات، فمثلًا: في الاستخدام العادي، تتضمن كلمة «خط» أنه إذا أُعطِيت ثلاث نقاط مميزة على خطٍ ما، فيجب أن تكون لديك نقطة واحدة بين النقطتين الأخريين. لكن عندما تحدد «الخط» باستخدام المنطق الصوري، يتبين أن «البينية» (Between–ness) في حاجة أيضًا إلى تعريف، وهو أمر تجاهله «إقليدس»، المنطق الصوري يجعل من السهل اكتشاف مثل هذه الفجوات.

لقد أدى هذا الإدراك إلى خلق أزمة في أسس الرياضيات، فإذا كان «العناصر» –الكتاب المقدس للرياضيات–  يحتوي على أخطاء منطقية، فما هي مجالات الرياضيات الأخرى التي تحتوي عليها أيضًا؟ وماذا عن العلوم مثل الفيزياء التي بُنيت فوق الرياضيات؟ الخبر السار هنا أن الأساليب المنطقية ذاتها المستخدمة للكشف عن هذه الأخطاء يمكن استخدامها أيضًا لتصحيحها، بدأ علماء الرياضيات في إعادة بناء أسس الرياضيات من الأسفل إلى الأعلى، ففي سنة 1889، طور عالم الرياضيات الإيطالي «جوزيبي بيانو» (Giuseppe Peano) بديهيات (Axioms) للحساب (Arithmetic)، وفي سنة 1899، فعل «ديفيد هيلبرت» الشيء ذاته من ناحية الهندسة، كما حدَّد برنامجًا لإضفاء الطابع الصوري على ما تبقى من الرياضيات، مع متطلبات محددة يجب أن تلبيها أي محاولة من هذا القبيل، بما في ذلك:

  • الاكتمال (Completeness): يجب أن يكون لدينا برهان على أن الجُمل الرياضية الصادقة جميعها يمكن البرهنة عليها في النسق الصوري.
  • القدرة على اتخاذ القرار (Decidability): يجب أن تكون لدينا خوارزمية لاتخاذ قرار بشأن صدق أية جملة رياضية أو كذبها (وهذه هي «مشكلة القرار» (Entscheidungsproblem or Decision Problem) المشار إليها في ورقة «تورينج»).

أصبحت إعادة بناء الرياضيات على نحو يلبي هذه المتطلبات معروفة باسم «برنامج هيلبرت» Hilbert’s Program)). وحتى ثلاثينيات القرن العشرين، كان هذا محور اهتمام مجموعة أساسية من كبار الرياضيين والمناطقة، بما في ذلك: «هيلبرت»، «رسل»، «كورت جودل» (Kurt Gödel)، «جون فون نيومان» (John Von Neumann)، «ألونزو تشيرش» (Alonzo Church)، وبالطبع «آلان تورينج».

اضغط على الاعلان لو أعجبك

استمر «برنامج هيلبرت» على جبهتين على الأقل، على الجبهة الأولى، أنشأ المناطقة أنساقًا منطقية حاولت البرهنة على أن متطلبات هيلبرت إما مُشبعة أم لا، وعلى الجبهة الثانية، استخدم علماء الرياضيات التصورات المنطقية لإعادة بناء الرياضيات الكلاسيكية. على سبيل المثال، يبدأ نسق بيانو للحساب بدالة بسيطة تسمى «دالة التالي» (Successor Function)، من شأنها أن تزيد أي عدد بمقدار واحد. وهو يستخدم هذه الدالة لتعريف عملية الجمع على نحوٍ متكرر، ويستخدم عملية الجمع لتعريف الضرب على نحوٍ متكرر، وهكذا، حتى تُعرَّف عمليات نظرية الأعداد كافة، ثم يستخدم هذه التعريفات، إلى جانب المنطق الصوري، لإثبات مبرهناته الحسابية.

ذات يوم، لاحظ فيلسوف العلم الأمريكي ومؤرخه «توماس كون» (Thomas Kuhn) أن «الجدة في العلم لا تظهر إلا بصعوبة». لم يكن المنطق في عصر «برنامج هيلبرت» سوى عملية مضطربة من البناء والهدم، يبني أحد المناطقة نسقًا متقنًا وآخر يهدمه! وكانت أداة الهدم المفضلة هي بناء جُمل متناقضة ذاتية المرجعية، تُظهر عدم اتساق البديهيات التي اشتقت منها. والشكل البسيط لهذه الجُمل ما تُعرف باسم «مفارقة الكذاب» (Liar’s Paradox)، فإذا قلنا مثلًا «هذه الجُملة كاذبة»، فإن الجُملة كاذبة إن كانت صادقة، وصادقة إن كانت كاذبة، ما يؤدي إلى حلقة لا نهاية لها من التناقض الذاتي!

قدم «رسل» أول استخدام ملحوظ لمفارقة الكذاب في المنطق الرياضي، إذ أظهر أن نسق «فريجه» يسمح باشتقاق مجموعات متناقضة ذاتيًا: لنفرض أن (م) مجموعة المجموعات كلها التي ليست أعضاء في نفسها، إذا لم تكن (م) عضوًا في نفسها، فإن تعريفها يقتضي أنها يجب أن تحتوي على نفسها، وإذا كانت تحتوي على نفسها، فإن هذا يتناقض مع تعريفها كونها مجموعة من المجموعات كلها التي ليست أعضاء في نفسها!

عُرفت هذه المفارقة باسم «مفارقة رسل» (Russell’s Paradox)، وكان يُنظر إليها على أنها عيبٌ خطير في إنجاز «فريجه»، بل لقد صُدم «فريجه» نفسه بهذا الاكتشاف، فرد على رسل قائلًا: «لقد سبَّب لي اكتشافك للتناقض دهشة بالغة، بل أكاد أقول أنه سبَّب لي الذعر، لأنه هز الأساس الذي كنت أعتزم بناء الحساب عليه»! ومن جانبه، قدَّم «رسل» –بمشاركة «ألفريد نورث وايتهيد» (Alfred North Whitehead)– المحاولة الأكثر طموحًا لاستكمال «برنامج هيلبرت» بعملهما الضخم «مبادئ الرياضيات» (برنكيبيا ماثيماتيكا Principia Mathematica)، الذي نُشر في ثلاثة مجلدات بين عامي 1910 و1913. وكان منهجهما في الكتاب مفصلًا للغاية، لدرجة أنهما استغرقا أكثر من ثلاثمائة صفحة للوصول إلى برهان على أن 1 + 1 = 2. كذلك حاول «رسل» و«وايتهيد» حل مفارقة «فريجه» بتقديم ما أسمياه «نظرية النمط» (Type Theory)، وفكرتها ببساطة تقسيم اللغات الصورية إلى مستويات أو أنماط متعددة، بحيث يمكن أن يشير كل مستوى إلى المستويات الأدنى، لكن ليس إلى مستواه أو إلى المستويات الأعلى. وقد أدى هذا إلى حل مفارقات المرجعية الذاتية في الواقع، عن طريق حظر المرجعية الذاتية، ولم يكن هذا الحل شائعًا لدى علماء المنطق، لكنه أثر على علوم الحاسوب، فمعظم لغات الحاسوب الحديثة لها سمات مستوحاة من نظرية النمط.

أظهرت مفارقات المرجعية الذاتية في النهاية أن «برنامج هيلبرت» لا يمكن أن يكون ناجحًا أبدًا. وجاءت الضربة الأولى سنة 1931، عندما نشر «جودل» مبرهنتيه في عدم الاكتمال (Incompleteness theorems)، اللتان أثبتتا أن أي نسق منطقي ثابت وقوي بما يكفي ليشمل العمليات الحسابية يجب أن يحتوي أيضًا على جُمل صادقة، لكن لا يمكن إثبات صحتها. والمبرهنتان معًا تُمثلان إحدى النتائج المنطقية القليلة التي انتشرت على نطاق واسع، بفضل كُتب معروفة، مثل كتاب عالم الحاسوب والإدراك الأمريكي «دوجلاس هوفستادتر» (Douglas Hofstadter)، المعنون: «جودل، إيشر، باخ: الضفيرة الذهبية الأبدية» (Gödel, Escher, Bach: an Eternal Golden Braid 1979)، وكتاب الفيلسوف وعالم الرياضيات البريطاني «روجر بنروز» (Roger Penrose): «عقل الإمبراطور الجديد» (The Emperor’s New Mind 1989).

يتبع…

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

العقل كبرمجيات حاسوبية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

 

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية