مقالات

أرسطو: المؤسس الأول لعلم الحاسوب .. الجزء الأول

في تصوراتنا الدارجة، نحن نعد الحاسوب نتيجة طبيعية للعلوم التجريبية، وإرثًا من عصر التنوير والثورات العلمية اللاحقة في القرنين التاسع عشر والعشرين. وبطبيعة الحال، فإن أجهزة الحاسوب الحديثة لها أسلافها القديمة، مثل «آلية أنتيكيثيرا» (Antikythera Mechanism)، وهي آلة من البرونز والخشب عمرها 2200 سنة، قادرة على التنبؤ بمواقع الكواكب والكسوف وأطوار القمر. هذه القطعة الأثرية الرائعة تتناسب مع السرد المألوف لتاريخ علم الحاسوب بوصفه تاريخًا للأشياء، بدءًا من «المعداد» (Abacus) إلى «محرك باباج» (Babbage engine)، وهو آلة حاسبة ميكانيكية أوتوماتيكية مصممة لجدولة الدوال متعددة الحدود، صُمِّمت في عشرينيات القرن التاسع عشر، وأُنشِئت لأول مرة على يد عالم الرياضيات الإنجليزي تشارلز باباج، وحتى آلات فك الشفرات في الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، ربما كان من الأفضل أن نفهم هذا التاريخ بوصفه تاريخًا للأفكار، وعلى نحوٍ أساسي: الأفكار التي انبثقت عن المنطق الرياضي، وهو مبحثٌ معرفي كان يتسم بالغموض حين ظهر لأول مرة في القرن التاسع عشر. وكان من أبرز رواده فلاسفة ومناطقة مثل «جورج بول» ( George Boole) و«جوتلوب فريجه» (Gottlob Frege)، الذين استلهموا في أعمالهم نسق «أرسطو» المنطقي القديم، وحلم «ليبنتز» Leibniz بتدشين لغة حسابية مثالية عالمية. هؤلاء المفكرون لا يقلون أهمية عن مُطوري علم الحاسوب في صورته الراهنة، إن لم يكونوا يفوقونهم أهمية، وبصفة خاصة «أرسطو». هذا ما يؤكده المُبرمج ورجل الأعمال الأمريكي «كريس ديكسون» (Chris Dixon) في مقالٍ له نُشر بموقع «ذا أطلانتك» (The Atlantic) في مارس من سنة 2017، تحت عنوان «كيف ابتكر أرسطو الحاسوب» (How Aristotle Created the Computer)، مُوضحًا كيف مهَّد الفلاسفة الذين تأثروا به المسرح للثورة التكنولوجية الحاسوبية التي أعادت تشكيل عالمنا. وهو ما نعرضه تفصيلًا في هذا المقال.

لم يخترع «أرسطو» آلة حاسبة، رغم أنها ربما كانت موجودة على نحوٍ ما في زمنه، ولم يره أحد وهو يبني لوحة دوائر في مرآب منزله وهو ملفوف في سترة، لكن أساليب تفكيره باتت واضحة في كل مكان بوصفها السقالة التي بنيت بها علوم الحاسوب الحديثة كلها. ولم لا؟! وقد وضع أسس المنطق الرياضي، وهو ميدانٌ بحثي سيكون له تأثير على العالم الحديث أكثر من أي ميدانٍ آخر. قد يبدو ادعاء مؤرخي الفلسفة هذا مثيرًا للسخرية إلى حدٍ ما، نظرًا لأن فلاسفة عصر التنوير مثل «فرانسيس بيكون» (Francis Bacon) و«جون لوك» (John Locke) قد أعلنوا عن مناهجهم التجريبية الحديثة بالتنصل التام من الإرث الأرسطي والمدرسي. نعم، كانت انتقاداتهم لمفكري العصور الوسطى متنوعة ومبررة إلى حد كبير، لكنهم مع ذلك، شأنهم شأن عديد من التجريبيين منذ ذلك الحين، غالبًا ما تجاهلوا الأهمية الحاسمة للمنطق الأرسطي للفكر العلمي.

في مطلع القرن العشرين، بعد ما يقرب من ثلاثمائة عام من سعي «بيكون» إلى تجاوز أورجانون أرسطو بمنهجه الاستقرائي، كان ثمة من لا يزال ينظر إلى المنطق الصوري بوصفه «موضوعًا مجردًا ميؤوسًا منه دون أي تطبيقات يمكن تصورها»، حتى لقد علَّق أحد علماء الحاسوب قائلًا: «إذا طُلب من شخص غريب، موهوب ومتعاطف، سنة 1901 أن يدرس العلوم ويسمّي الفرع الذي سيكون الأقل إثمارًا في القرن المقبل، فمن المحتمل جدًا أن يستقر اختياره على المنطق الرياضي». لكن قيمة هذا المنطق وأهميته تتجلى حين نتتبع تطور علم الحاسوب، بدءًا من ثلاثينيات القرن العشرين، لا سيما مع ورقتين بحثيتين بارزتين، الأولى لعالم الرياضيات الأمريكي «كلود إيلود شانون» ( Claude Elwood Shannon)، وعنوانها «تحليل رمزي لدوائر الترحيل والتبديل» ( A Symbolic Analysis of Switching and Relay Circuits 1938)، وقد كانت في الأصل أطروحة حصل بها على درجة الماجستير من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا سنة 1937، ووُصفت بأنها أهم أطروحة ماجستير في القرن العشرين. أما الورقة الثانية فقد كانت لعالم الرياضيات والمنطق البريطاني «آلان تورينج» (Alan Turing)، وجاءت تحت عنوان «بخصوص الأرقام القابلة للحساب مع تطبيق على مشكلة القرار» (On Computable Numbers, With an Application to the Entscheidungs problem 1937 – 1938). ومن المعروف أن «شانون» و«تورينج» من الشخصيات البارزة في تاريخ علم الحاسوب، لكن كثيرًا ما يُتغاضى عن أهمية الفلاسفة وعلماء المنطق الذين سبقوهم.

كان مشرف «شانون»، المهندس والمخترع الأمريكي «فانيفار بوش» (Vannevar Bush)، قد بنى نموذجًا أوَّليًا للحاسوب يعرف باسم «المحلل التفاضلي» (Differential Analyzer)، الذي يمكنه حساب المعادلات التفاضلية سريعًا، وكان الجهاز في الغالب ميكانيكيًا، مع أنظمة فرعية يتحكم فيها بمرحلات كهربائية (Electrical Relays)، وهذه الأخيرة تُنظم على نحو مُخصص، إذ لم تكن هناك بعد نظرية منهجية وراء تصميم الدوائر، وجاء موضوع أطروحة شانون عندما أوصى «بوش» بمحاولة اكتشاف مثل هذه النظرية.

من جهة أخرى، تعد ورقة «شانون» البحثية من نواحٍ عديدة ورقة بحثية نموذجية في مجال الهندسة الكهربائية، مليئة بالمعادلات والرسوم البيانية للدوائر الكهربائية. ما هو غير عادي أن المرجع الأساسي له كان عملًا فلسفيًا رياضيًا عمره نحو تسعين عامًا، وهو كتاب «جورج بول»: «قوانين الفكر» (The Laws of Thought)، المنشور سنة 1854. اليوم، اسم «بول» أصبح معروفًا بقوة لعلماء الحاسوب، إذ إن عديدًا من لغات البرمجة لديها نوع بيانات أساسي يُسمى «بولياني» Boolean))، لكن هذا العمل سنة 1938 كان نادرًا ما يُقرأ خارج أقسام الفلسفة. تعرَّف «شانون» على أعمال «بول» حين درس الفلسفة في مرحلته الجامعية الأولى، وعلق لاحقًا قائلًا: «لم يكن أي شخص آخر على دراية بكلا المجالين (الفلسفة والرياضيات) في الوقت ذاته». غالبًا ما يوصف «بول» بأنه عالم رياضيات، لكنه رأى نفسه فيلسوفًا يسير على خطى أرسطو، إذ يبدأ كتاب «قوانين الفكر» بوصف أهدافه، التي تتلخص في فحص القوانين الأساسية لعمل العقل البشري. يقول «بول»:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

«يتمثل تصميم الأطروحة التالية في دراسة القوانين الأساسية لعمليات العقل التي يُنجز بها الاستدلال، وذلك للتعبير عنها باللغة الرمزية لحساب التفاضل والتكامل، وعلى هذا الأساس يدشن علم المنطق. وأخيرًا، جمع بعض التاويهات المحتملة المتعلقة بطبيعة العقل البشري وتكوينه».

ثم يشيد بأرسطو، مخترع المنطق، والمؤثر الأساسي على عمله، قائلًا:

«والحق أن موضوع المنطق، في شكله القديم والمدرسي، إنما يرتبط ارتباطًا شبه حصري بالاسم العظيم: أرسطو، إذ قدَّمه إلى اليونان القديمة في المناقشات التقنية جزئيًا والميتافيزيقية جزئيًا للأورجانون، وقد استمرت رؤى أرسطو حتى يومنا هذا، دون أي تغيير جوهري تقريبًا».

يتبع…

مقالات ذات صلة:

الأبعاد المنطقية للذكاء الاصطناعي

فيليس تمتطي ظهر أرسطو

نحو أخلاقيات للتكنولوجيا العصبية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية