أتجعلُ فيها من يُفسد فيها ويسفكُ الدماء؟!
«وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ» (البقرة: 30).
لم يكن ذكر القرآن لتساؤل الملائكة عن خلق الإنسان من قبيل مجرد السرد القصصي أو الإخبار التاريخي، إنما يحمل دلالة مهمة وأساسية بشأن مستقبل الإنسان في هذه الأرض.
يبدو تساؤل الملائكة بمثابة استغراب من كفاءة مخلوق مستعد لأن يعتدي على نظام الطبيعة والقيم ثم يصلح لأن يكون خليفة في الأرض، وهذا يعني أن أهم عناصر فشل الإنسان في خلافة الأرض وتحمل الأمانة هو الفساد وسفك الدماء.
هذا ما تؤكده إحصاءات حجم ما ينفقه الإنسان في عالمنا المعاصر على التسلح والحروب لمواجهة أخيه الإنسان، في مقابل ما ينفقه من أجل إعمار الأرض والقضاء على الفقر والجهل والمرض والعيش في سلام!
«إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا» (الأحزاب: 72).
قد تصيبك الدهشة حين تعلم أن كلاً منّا يدفع سنويًا ما يقارب خمسة دولارات للتنمية والسلام في مقابل مائتين وخمسين دولارًا للتسلّح!
حجم الإنفاق العسكري في العالم:
فوفقًا للكتاب السنوي لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (سيبري SIPRI)، بلغ حجم الإنفاق العسكري في العالم سنة 2020 حوالي 1.981 مليار دولار (نحو 1.650 مليار يورو)، بما يشكّل زيادة بنسبة 2.6% عن معدل الإنفاق ذاته سنة 2019،
وبنسبة 9.3% عن سنة 2011، في معية تقليص المساعدات الإنسانية التي كانت تقدمها الدول الكبرى للدول الفقيرة والمحتاجة، حيث يشير برنامج الأغذية التابع للأمم المتحدة إلى أن هناك ما يقارب مليار إنسان حول العالم يفتقرون إلى الغذاء الذي يمكنهم من العيش بصحة جيدة، وذلك على الرغم من إعادة تخصيص بعض أموال الدفاع من قبل بعض الحكومات لمكافحة جائحة كوفيد-19!
الولايات المتحدة تحتل المركز الأكبر
من جهة أخرى، ما زالت الولايات المتحدة هي أكبر منفق عسكري في العالم، حيث أنفقت 778 مليار دولار، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 4.4% عن سنة 2019، لتحتل المركز الأول بوصفها صاحبة أكبر ميزانية دفاعية في العالم (39% من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي).
وكانت سنة 2020 هي السنة الثالثة على التوالي للنمو في الإنفاق العسكري الأمريكي بعد سبع سنوات من التخفيضات المتواصلة.
الصين صاحبة المركز الثاني
أما الصين (صاحبة المركز الثاني)، فقد أنفقت 252 مليار دولار (13% من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي)، بما يمثل زيادة بنسبة 1.9% عن سنة 2019. وجاءت الهند في المرتبة الثالثة، حيث بلغ إنفاقها العسكري 72.9 مليار دولار (نحو 3.7% من الإنفاق العسكري العالمي)، وفي المرتبة الرابعة تأتي روسيا (61.7 مليار دولار، أي 3.1% من الإنفاق العالمي).
أما المرتبة الخامسة فقد جاءت من نصيب المملكة المتحدة (59.2 مليار دولار، بما يعادل 3% من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي).
الدول العربية
أما عن الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط، فرغم حجم التخلف الذي تكابده، فقد ضمت قائمة الأربعين دولة الأكثر إنفاقًا في المجال العسكري عالميًا خلال سنة 2020 ست دول عربية هي السعودية (المركز السادس عالميًا والأول عربيًا) والجزائر والعراق والكويت وعمان والمغرب، بالإضافة إلى إيران وإسرائيل. وقد بلغ حجم الإنفاق العسكري السعودي 57.7 مليار دولار (8.4% من الناتج المحلي الإجمالي و2.9% من حجم الإنفاق العالمي)، رغم تراجعها عن المركز الخامس سنة 2019.
وتشير التقديرات إلى أن حجم الإنفاق العسكري العربي شكَّل أكثر من 7% من الناتج المحلي الإجمالي في معظم الدول العربية خلال السنوات العشر الماضية وهي من أعلى النسب في العالم، كما أن نسبة الإنفاق العسكري إلى الإنفاق الحكومي ككل في الدول العربية تصل إلى 12.13% في مقابل 6.1 عالميًا، أي أن العالم العربي ينفق على العسكرة بالقياس إلى إنفاقه على القطاعات الأخرى ضعف المعدل العالمي!
نوازع الإنسان العدوانية
هذه الأرقام تعكس بلا شك نوازع الإنسان العدوانية التي قد تتوارى خلف مظاهر حضارته، وهو ما عبَّر عنه عددٌ من مُفكري عالمنا المعاصر بصراحة ووضوح، فها هو «فرويد» S. Freud مثلًا يُعد العدوان علامة الإنسان «في داخله»، والحافز المكبوت للتعبير عن الذات وتحقيقها دون تقييد.
وقد كتب في مؤلفه «الحضارة واستياؤها» Civilization and its Discontents يقول: «الحقيقة هي أن الناس ليسوا مخلوقات ودودة وديعة.. إن درجة من الرغبة في العدوان يجب أن يُحسب حسابها كجزء من موهبتهم الغريزية».
ويؤكد الفيلسوف الألماني «أوزفالد شبنجلر» O. Spengler هذا المعنى في كتابه «أفول الغرب» The Decline of the West، إذ يكتب قائلًا: «إن الحيوان المفترس هو أعلى أشكال الحياة النشطة. إنه يمثل أسلوبًا للعيش يتطلب الدرجة القصوى من ضرورة القتال، والإخضاع، والإبادة، وتوكيد المرء تفوقه على الآخرين.
ويحتل الجنس الإنساني مرتبة عُليا لأنه ينتسب إلى نوع الوحوش المفترسة. إن الإنسان وحشٌ مفترس. سأقول ذلك مرارًا وتكرارًا». كذلك يقارن الفيلسوف الأمريكي «هربرت ماركيوز» H. Marcuse –على نحو تهكمي– بين أشكال العدوان البدائية لدى الإنسان، وتلك التي يغلفها المجتمع الصناعي المتقدم بقيمه المعوجة وغاياته، فيصرح قائلًا: «من المؤكد أن استخدام وسائل العدوان قديم قدم الحضارة ذاتها، لكن هناك فرقًا حاسمًا بين العدوان التكنولوجي وأشد الأشكال بدائية منه.
فهذه الأخيرة لا تختلف كمًا فحسب (أضعف)، إنها تتطلب النشاط ومشاركة الجسم إلى درجة أعلى من الوسائل الآلية وشبه الآلية من العدوان، ويكون استخدامها استخدامًا إجراميًا، أما العدوان التكنولوجي فهو على العكس من ذلك ليس عملًا إجراميًا.
فالسائق المسرع لسيارة أو قارب بخاري لا يُسمى قاتلًا حتى ولو كان كذلك. ومن المؤكد أن مهندسي إطلاق الصواريخ ليسوا قتلة، إن الأنماط الجديدة للعدوان تدمر دون أن تجعل أيدي الإنسان قذرة، أو تجعل جسمه ملوثًا، أو تجعل عقله آثمًا».
ختاماً
أخيرًا، وفي ضوء الأرقام المفزعة السابقة، تستطيع عزيزي القارئ أن ترى بوضوح صورة المستقبل للجنس البشري عمومًا، وللعرب الأكثر تخلفًا بصفة خاصة، لكن هذه الصورة وإن كانت قاتمة لا تُنفي أن الخير والشر بمثابة ثنائية تحكم مسارات البشر عمومًا منذ خلق آدم وحتى تقوم الساعة، والأصل في هذه الثنائية أن الإنسان خيّرٌ بفطرته وجبلته التي خُلق عليها
«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» (التين: 4)، والشر طارئٌ عليه، مُعاندٌ لخيريته بغواية النفس وقصور العقل «ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ» (التين: 5)، وما دام الخير أصلًا فهو باق، وهو المنتصر في النهاية، أدركنا ذلك أو لم ندرك!
اقرأ أيضاً:
اعتراض الملائكة على استخلاف الإنسان
الصين وأمريكا عملاقان متصارعان
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا