المثاليون خبـراء التعطيل.. كيف توصل الفراعنة لبناء الهرم المتين ؟
لم نعتَد أن نسأل كيف بُنيت الأهرامات؟ وكيف أتقن المصريون هذه التقنية قديما بدرجة مكنتهم من تكرار هذه الأعجوبة مرات عديدة؟ لم نعتد أن ننظر بانبهار لصور هرم سقارة الجد الأكبر لأهرامات الجيزة أو لأهرامات دهشور التي أنشأت في عهد سنفرو على يد مهندسه أمحتب. لا نهتم بتفاصيل أن سنفرو اضطر أن يرمم هرمًا قديمًا في ميديوم ثم يحقق نجاحًا غير مكتمل عند بناء هرمه المنحني في دهشور قبل أن يكتمل الجمال والرونق في أسطورة الأهرامات عندما استطاع في النهاية أن يبني الهرم الأحمر.
ربما ينبهر الكثيرون بصور أهرامات الجيزة، تلك الأهرامات المثالية التي لطالما عاملناها معاملة النقطة التاريخية التي يتوقف عندها الزمن ليسجل عظمة الحضارة المصرية قديما، ولكنني أفضل أن أرى الصورة كاملة كتيار متدفق ومستمر من محاولات الفشل والنجاح الممزوجة بطعم العناء والأمل والجهد من أجل أن ترسم في النهاية تلك النقاط اللامعة على وجه التاريخ.
الهرم المتهاوى خطوة للنجاح
ربما وقف أحد المصريين قديما في منطقة المنيا وهو ينظر بسخرية لهرم ميديوم الذي قد يبدو مضحكا وهو يتهاوى تحت ثقله وتتفتت صخوره متناثرة حوله نتيجة لزاوية بنائه الحادة التي جعلت من صموده وحفاظه على شكله الهرمي الثاقب أمرًا مستحيلًا بالفعل.
ربما أومأ براسه متأسفا على ضياع الوقت والمجهود هباءً من أجل تجربة لم تحقق أهدافها، لكن أمحتب نظر للتجربة على أنها انتصار أو كما قال أديسون، “إنني لم أفشل 700 مرة، إنني لم أفشل البتة، لقد نجحت في إثبات أن هذه الطرق السبعمائة لم تنجح، وعندما أقوم بإلغاء هذه الطرق من احتمالات النجاح سأجد الطريقة التي ستعمل وتنتج المصباح الكهربائي”.
الصور من اليمين: هرم ميديوم بعد انهيار جزئه العلوي وكسائه الجيري الخارجي، الهرم المنحني ويظهر كيف أن زاوية قاعدته تختلف عن زاوية قمته وأخيرا الهرم الأحمر.
كسل يرتدي رداء الحكمة
تعودت منذ الصغر على إيجاد المبررات التي تظهر في الخارج براقة ومثالية لكي لا يستطيع الآخرون انتقادها، لكنها تخفي داخل طياتها الحقيقة، وهي أنني كسول أو متخاذل في الاهتمام بمسؤولياتي. هذا الكسل المكتسي بثياب الحكمة واللباقة لطالما منعني من الكثير والكثير من الإنجازات في سنين عمري التي مضت. لم أنزل للجري في النادي أو على البحر بحجة الوقت المتأخر أو الجو البارد أو لعدم وجود زي رياضي مناسب.
ومع مضي الأعوام وتلاشي الحجج خلف طبقات الدهون المتراكمة التي دمرت صحتي وأنهكت قلبي وأنهجت صدري، تعلمت الجري في الصباح والمساء وفي الشتاء والصيف على سواء لكي أستعيد رشاقتي. لم أعد أهتم بوضع الحواجز بيني وبين الرياضة، فما أن تزور خاطري فكرة الجري حتى أسرع لارتداء ملابسي والنزول سريعا للشارع للجري. أحاول الهروب من الأفكار الرتيبة ونمط اليوم الممل عن طريق الخروج والجري والتأمل والتفكر، فأعود منتعشا تمام مثل جهاز الحاسوب عندما تطفئه ثم تعيد تشغيله لتنشط دوائره ويستعيد سرعته.
عائق المثالية
يتكلم الأصدقاء عادة عن الخروجة المثالية، فيجب اختيار يوم مناسب ووقت مناسب وفيلم في السينما جديد ومثير وحركي، ومطعم معين لتناول الغذاء معا! يذهب الوقت في هذه المشاحنات والمناقشات حول برنامج الخروجة ليتفاجأوا بضياع فرصة الترفيه ويضطرون لقضاء الليل إما أمام الحواسيب أو الهواتف الذكية قبل أن يخلدوا للنوم.
تنسينا التفاصيل والمثالية في بعض الأحيان جمال التلقائية والصدفة والمفاجئة. حاول البعض العيش عند الثنائيات، فإما الحرص المطلق أو العشوائية والتهور المطلق، وتسربت تلك الطباع من الهزل إلى الجد.
تعلمت في البحث العلمي أن أحاول الوصول للنتيجة الصحيحة بأعلى دقة ممكنة. سيطرت كلمات الصحة والدقة على ذهني بصورة بشعة في بعض سنين دراستي للدكتوراه، وتحول الموضوع في بعض الأحيان للوسواس أو الهوس القهري، وعلى الرغم من أن البعض قد يجد الأمر جيدا لاسيما في مجال البحث العلمي والتحاليل، إلا أن الواقع أثبت عكس ذلك بدرجة من درجات التفاوت المعقولة.
تتحول اهتمامتنا بالدقة والصحة في بعض الأحيان لأعباء ثقيلة على ظهورنا تمنعنا من التطور ومن تحقيق الإنجاز، ولهذه الحالة الكثير من العوامل التي قد تسببها. ترعرع أحد أصدقائي في منزل مشحون بجو المثالية والنقد الشديد، فالأم لا ترضى إلا بالكمال التام في الأداء الدراسي أو الرياضي، أما الأب فكانت هوايته هو استخراج محلات النقص التي لم يستطع صديقي تحقيق الإنجاز فيها، فيترك كل ما استطاع النجاح فيه ويفتش عن الإبرة في كومة القش بحثا عن عيب جديد لم يستطع صديقي معالجته بعد، ثم يقرح بدنه ويسمم روحه بالانتقادات اللاذعة والإهانات المتتالية.
مراحل الأهرامات الثلاث
مع الوقت ترسخت في ذهنه فكرة أنه لن يستطيع إرضاء من حوله مهما فعل، وتطور معه الموضوع لدرجة الهوس بالكمال في كل شيء خوفا من نقد الناقدين. فاعتقد أنه بتصعيب شروط النجاح على نفسه سيتأكد من أن أعماله ستقترب أكثر من الكمال وبالتالي سيتجنب النظرة السلبية من الوسط المحيط له. لكن وعلى عكس مما تمنى فإنه ومن دون المرور بمراحل هرم ميديوم و الهرم المنحني و الهرم الأحمر فإنه لن يستطيع ترك تلك البصمة اللامعة التي يحلم بها كما كان يحلم بها سنفرو وأمحتب.
نعم لقد تحمل سنفرو الكثير من العناء في سبيل هدفه، وربما لا يتذكره التاريخ كما يستحق هو أن يذكر، بل ربما سخر بعض الجاهلين بقدر إنجازاته من أهراماته الكوميدية. ولكننا اليوم لا يمكننا أن نتخيل أي إنجاز إلا إذا مررنا بهذه المحطات الصعبة والمحبطة في -بعض إن لم يكن- كثير من الأحيان.
ولذلك فالفرق الحقيقي بين أصحاب الإنجازات وأصحاب الأحلام والرؤى هو القرار الذي اتخذوه عند هذه اللحظة الحاسمة وهم يتسلقون الجبل، بعد أن ارتعشت فرائصهم، وتشنجت عضلاتهم، وجفت شفاههم من العطش، وكادوا أن يعودوا من حيث أتوا دون أن يكملوا المسير نحو النهاية، في هذه اللحظة يختزل كل معنى وكل كلمة وكل معاناة نحو النجاح، في مجرد كلمة أو قرار داخلي أو إماءة رأس خفيفة تقول “لا” في وجه التحدي، “سأكمل المسيرة،
نعم لدي بعض الأخطاء، وخسرت بعض الأشياء الثمينة هنا وهناك نتيجة لبعض الإهمال والكسل، لكنني مازلت هنا، أتنفس، وأشعر وأفكر، وطالما أنني على ثقة من مبادئي، وعلى إيمان راسخ بهدفي الذي حددته مسبقا وفق معايير العقل والحق والعدل، فإنني ومهما تكلف الأمر لن أستسلم…”