هيراقليطس الباكي، وديموقريطس الضاحك!
بين بكاء أحدهما وضحك الآخر تتجلى المأساة، ويقف المرء حائرا إزاء حماقة الواقع: هل أبكي مع الأول أم أضحك مع الثاني؟
الأول «هيراقليطس» Heraclitus
الفيلسوف الزاهد الغامض صاحب الألغاز وعاشق المتناقضات. كان كلما خرج من بيته وشاهد من حوله يكابدون حياتهم الرديئة، بل ويموتون ميتة رديئة، بكى وانزوى بعيدا مكفكفا دموعه. كان رقيق القلب سريع التأثر تؤلمه عذابات الآخرين، وتقتله كل لحظة تناقضات الواقع؛ يولد الإنسان ليغدو طفلا، ثم يصير شابا ورجلا وشيخا وكهلا ثم يموت.
الحياة تنقلب إلى موت. ولولا المرض ما طلب الإنسان الصحة، ولولا العمل ما كان يمكن للإنسان أن يستمتع بالراحة. المرأة جنة الرجل وجحيمه، الماء السائل يتحول إلى بخار وثلج وجليد، النهار يعقبه ليل، والشتاء يعقبه ربيع، والربيع يعقبه صيف، والصيف يعقبه خريف، الساخن يصبح باردا، والبارد يصبح ساخنا، النار تحيا بموت الأرض، والهواء يحيا بموت النار، والماء يحيا بموت الهواء، والأرض تحيا بموت الماء، والحرب ناموس الأرض، والدماء لونها، والكراهية ديدنها، والانهيار مصير الكون.
إنه الشيء ذاته أن تكون حيا أو ميتا، مستيقظا أو نائما، يافعا أو هرما. فالمظهر الأول من كل حالة يصبح المظهر الآخر، والآخر مرة أخرى يصبح الأول بنقض مفاجئ غير متوقع!
دفعته حماقة البشر وتناقضات الأشياء إلى الزهد في الحياة، كره الحياة والبشر، وذهب إلى الجبال يقتات على الحشائش والعشب، شفقته تثير الشفقة!
The Weeping Philosopher vs the Laughing Philosopher(s)
Source: http://newepicurean.com/the-weeping-philosopher-vs-the-laughing-philosophers
الثاني «ديموقريطس»Democritus
فيلسوف الذرة والخلاء والحركة. كان لا يراه الناس إلا ضاحكا مرحا ساخرا. كان يسيح في الأرض من بلاده إلى مصر والحبشة وفارس والهند وغيرها مما يمكن أن تصل إليه قدميه.
يضحك من أولئك الحمقى الذين يستسلمون للأحزان ولا يعتبرون بما حولهم من عادات الزمن وصروفه، حتى لقد جرؤ بالسخرية من «دارا» ملك الفرس حين رآه حزينا على موت جارية يعشقها، فوعده ديمقريطس بإحيائها بعد دفنها، وقال له إن الأمر لا يتطلب أكثر من كتابة ثلاثة أسماء على القبر فتعود الجارية إلى الحياة، وسأله «دارا» في لهفة: وما تكون هذه الأسماء؟ فأجابه الفيلسوف وهو يصطنع الجد: أسماء ثلاثة لن يفقدوا أحدا من الأعزاء!
كلاهما كان يغضب، يتألم مما آل إليه حال أمته في زمنه، لكن بطريقته؛ الأول يبكي على سخف عقول الناس من حوله، والثاني يضحك من حماقة يتخذونها سبيلا للحياة!
وها نحن مثلهما، تحيط بنا الرذائل، يهاجمنا المرض، يكبلنا الفقر، تمحونا الحكومات، يعلو أمامنا الجهل والمنطق الرديء، تطوقنا الحماقات، وتُخرج لنا المتناقضات والسخافات ألسنتها، فهل نبكي أم نضحك؟ نُشفق أم نسخر؟ أم نمزج بينهما في ملحمة العبث والفناء؟
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.