المدنُ المسحورةُ.. وهمٌ جغرافي وتاريخٌ أسطوري – الجزء الأول
يخطو الإنسان خلال رحلته المحدودة على الأرض آملًا في عِوضٍ عن بؤس دنياه، عيناه تتقلبان في السماء، علّها تُفتِّحُ أبوابها بوَّاحة بالسر كاشفة للغطاء، ثمة حنين مُوجِع إلى الماضي حيث الجنة الأولى، جنة أبيه، موطن ما قبل الخطيئة، أنهار جارية وثمار دانية وخمر لذة للشاربين.
يظلُّ التوقُ يأكله إلى أن يقع خياله –المتحفِّز للمطلق، الحالم بالأبدية– على جنته الأرضية، يعضده موروثٌ دينيٌ يستند عليه ثُمَّ طبيعةٌ جغرافيةٌ تسمح للحلم بالانطلاق وعدم المصادرة، هذه الجنة/الحلم إحدى المدن المسحورة التي وقع اختيار الباحث والشاعر فارس خضر عليها، مؤلف كتاب “المدن المسحورة” الصادر عن سلسلة الدراسات الشعبية، ومدينته المُتخيَلَة “زَرْزُورة” إحدى المدن المُختفية في الواحات موطن المؤلف، ودراسته أطروحة للدكتوراة حصل عليها من معهد الفنون الشعبية في القاهرة.
المدينة المسحورة
يبدأ المؤلف الفصل الأول بمحاولة تعريف “المدينة المسحورة”، المدينة اليوتوبية “المثالية” التي تتواتر في عدد من المدوَّنات حين يأتي ذكر الواحات، ولا يزال الاعتقاد بوجودها ماثلًا في العقلية الشعبية، وهذه المدن لها عدة توصيفات، فهي مُطلسمة أو باطنة أو مستورة أو مَخفية، لكنَّ التعبير الشعبي الأكثر تداولًا هو “المسحورة”.
المعتقدات الشعبية حول هذه المدن هي التأملات والخبرات القديمة للإنسان الشعبي ونتاج لقواه الشاعرية، وهذه المعتقدات يزداد تداولها في المناطق الصحراوية، وفي الفترات التاريخية التي تزداد بها وطأة الظلم الاجتماعي والسياسي.
بالنظر إلى واحة الداخلة فقد عمل عنصر الطبيعة الجغرافية للواحة، حيث القُرب من بحر الرمال الأعظم الذي يفصل الصحراء الغربية عن الجماهيرية الليبية، على ترسيخ هذه المعتقدات ترسيخًا كبيرًا في وعي العقلية الشعبية، أيضًا العُزلة الجغرافية للواحة والخوف من ارتياد مجاهل الصحراء مما خلق كثيرًا من هذه المعتقدات، أضف إلى ذلك عدم انصياع أهل الواحات للسلطة المركزية انصياعًا كاملًا إلا منذ قرنين تقريبًا عام 1820م.
أرض العزلة والمنفى والمهجر
كانت الواحات ملاذًا وملجأ لكثير من الفارين والمنفيين في عصورٍ شتى، فقد شهدتْ هروب ابن الصوفي العلوي بعد هزيمته في حربه الثانية ضد جيش أحمد ابن طولون، وهروب شاور بن مجير السعدي، إضافة إلى هروب بعض العناصر من الاضطهاد الديني في عصر الشهداء، حتى بلغ سكان الواحات نحو المليون وفق تقدير جمال حمدان، الذي يعدُّ أنَّ العصرَ الفرعوني هو العصرُ الذهبي للواحات، في حين أُهملت في العصر العربي، عصر أبناء الصحراء، إلى أن تمَّ الانهيار الكامل في العصر التركي.
من الواقعي إلى الميثولوجي
المعتقدات حول المدن المسحورة سواءً المدوَّنة أم الشفاهية تنتقل من واقعيتها إلى شيء يسمى “جغرافيا الوهم”، يصفه الدكتور فارس خضر بأنه ليس مطلقًا بل لهذا المُعتقد جذور تاريخية وأسباب مِن صُنع الطبيعة الجغرافية للمنطقة التي نشأ فيها، فنصوص المدن المسحورة ومعتقداتها تضع قدمًا في الجغرافيا وقدمًا في الوهم، وهذا ما بيَّنه الباحث إذ أشار إلى اختفاء أربع عزب كانت تابعة لقرية القصر ولم يعد لها وجود (الحمام وشكول والقلول وعنفيش).
هذا الاختفاء لتلك “العزب” وغيرها يُحفِّز العقلية الشعبية لنقلها على الفور إلى الحيز الميثولوجي.
المأثور الجغرافي وترسيخ المعتقد
يُعدُّ استعادة المخيلة الشعبية للجنة السماوية وإعادة تمثلها من جديد عبر خلق الجنة الأرضية نوعًا من الاسترداد العاطفي الرمزي، إذ إنَّ هناك مدنًا عربية باذخة تلاشتْ لكن ظل ذكرها كامنًا في المخيلة العربية، فانتقل بها من الحيز الواقعي إلى الحيز الأسطوري.
تنبه الجغرافيون العرب إلى أسباب أدَّتْ إلى الهجرة من الواحات ومن ثَمَّ اندثار بعض المناطق فيها، وهي اعتداء الرمال وكثرة جري الرياح، وانقطاع الطرق وطغيان الرمال، كل ذلك عمل على إزالة الطلسمات ومن ثَمَّ خراب الواحات، والطلسمات تماثيل نحاسية أو حجرية كانت توضع في مداخل القرى لحمايتها من الأعداء المتربصين.
التنوع العرقي في الواحات وذيوع المعتقد
يُشير الباحث إلى أن العناصر السكانية في الواحات تتكون من فئات أربع: المصريين الأقباط (السكان الأصليين) والبربر والنوبيين والعرب.
أما عن الصفات المورفولوجية (الشكل والبنية الجسمية) لسكان الواحات فتغلب عليهم الصفات المصرية القديمة؛ الرأس المستطيل والأنف الحاد والجبهة العريضة، وبعضهم تغلب عليه الصفات العربية؛ الجبهة عريضة والأنف مفرطح والشعر خشن والبشرة قحمية أو تميل إلى السمرة، في حين تجد بعض العائلات تغلب عليها صفات النوبيين والسودانيين.
أما عن الظواهر اللغوية، فلكل جماعة لهجة تُميِّزها عن غيرها، ففي “قرية البلاط” تحتفظ لهجتها بحرف القاف كما هو فلا تقلبه همزة، وفي قرية “القصر” يقلب أفرادها النون لامًا، واللام نونًا أحيانًا، فيُقال “النينة” بدلًا من “الليلة”، كما توجد في بعض المناطق ظاهرة الإمالة بأن تمال الألف حتى تقترب من الياء، فيُقال “بيريس” بدلًا من “باريس”.
ينتهي الباحث إلى نتيجة مهمة خاصة بعصبية الدم القائمة على أساس القرابة، إذ يَعتبر أن مجتمع الواحات مُكونٌ من عدة عناصر، فالترابط الوثيق بين أفراده غير موجود، فيقول: “وهذا ما يفسر انتفاء عادة الثأر في الواحات، هذه العادة الناتجة عن الشعور بالعصبية للأهل والعشيرة”.
دلالات الإشارات التاريخية والجغرافية القديمة
في نصوص المدن المسحورة جاء ذكر الخليفة معاوية بن أبي سفيان، وقد اتسعتْ رقعة الدولة الإسلامية بفضل الفتوحات، التي لم تكن بحثًا عن مصادر الماء والكلأ بل عن مصادر القوة والثراء.
ثمة قائدان عسكريان: طارق بن زياد وموسى بن نصير، جاء ذكرهما في نصوص المدن المسحورة، فقد كان الأول قائدًا لجيوش الثاني، وهو الذي أكمل الفتوحات في إفريقيا وفتح المدائن، وطارق بن زياد في الأصل من قبيلة “نفزة” البربرية في منطقة وهران بالغرب الجزائري، والبربر كما ذُكر في الكتاب استقروا في الواحات.
أما عن القبائل التي جاء ذكرها في نصوص المدن المسحورة هي قبيلة واحدة اسمها “بني قُرَّة”، وكانت على نزاع مع الفاطميين، ثم انحدروا من مكان سكنهم بالبحيرة إلى الصعيد وفق رواية المقريزي.
وللحديث تتمةٌ…
مقالات ذات صلة:
المدينة الفاضلة بين الخيال والواقع
“المدينة” بين الغربة والاغتراب
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا