هل مجتمعنا “مش بيمشي غير بالعصاية”, أو “غير لما ياخد على دماغه”؟
عادة ما يتكرر في الإعلام (لا سيما في مناسبات معينة) أن مجتمعنا “مش بيمشي غير بالعصاية” ويوصف بأنه المجتمع “لازم يأخد علي دماغه عشان ينظبت”, وهذه الرؤية عادة ما تثير حفيظة البعض, فيشرع في الدفاع عن نفسه في صورة دفاعه عن المجتمع (إذ أنه جزء من المجتمع وما يصيب المجتع يصيبه) فينفي ما تدعيه وسائل الإعلام, متهما إياها بالتكريس لتوجه سياسي معين, وهذا بدوره يزيد من الفجوة بين عموم الشعب والإعلام, غير أن هذا ” المدافع” عن الشعب (وعن نفسه ابتداءا) سرعان ما يصل إلى نفس النتيجة, عندما يرى من أفراد المجتمع مَن إذا أحسن إليه أساء وظلم, ليعود فيكرر نفس طرح رؤية الإعلام في صورة “الناس دي مالهاش اللي يعاملها باحترام” أو “في ناس لما تحترمها تتكبر عليك” فما هو موقع هذه الرؤية من الصحة؟
ذكرت العديد من المصادر الموثوقة حكاية نبي يُدعي اسرائيل (يعقوب), وله من الولد الذكور اثني عشر, أحدهم كان يوسف والذي صار عزيز مصر لاحقا, والذي فتح أبواب مصر لإخوته ونسلهم, ودعاهم لدخولها آمنين, في مقولة لا تزال تستعمل لنفس الغرض.
ثم بمرور الزمن حدث اضطراب مجتمعي, أدى بهؤلاء النسل المكرمين إلى إذلالهم وعزلهم عن المواطنين الأصليين تحت تأثير “حكم فرعون”, فصاروا لاحقا خداما لهم بعد أن كانوا أسيادا, وظلوا خاضعين لهذا الحكم فترة من الزمان, إلى أن أنقذهم الله علي يد نبي من نسل اسرائيل هو موسى, لتشكل هذه الفترة “الصعبة”علي قصرها النسبي نقطة تحول في تاريخ البشرية ككل, ودرس مستفاد لا يمكن تجاهله, ليظهر سؤال مهم أيضا هو: لماذا تكرر عصيان بنو اسرائيل لمن خلصهم من حكم فرعون؟
إن فهم الطفرة (بمعناها السيئ) التي طرأت علي التكوين النفسي لبني اسرائيل (والذي لا يزال معهم حتى اللحظة) هو المفسر الأكبر لعصيانهم المتكرر, كما أنه المفسرالأهم لسلوكهم وسلوك من تعرض لنفس الظروف من الاستبداد علي اختلاف درجاته, وتَسَبّبت في هذه الطفرة”قوة مستبدة”, منعت تكوين الروابط بين أفراد مجتمع بني اسرائيل, فلم تحترم حق الحياة وسلبتها وقتما تشاء, ولم تحترم حق الزوجية فسلبت الزوج زوجته, ولم تحترم حق الأمومة فسلبت الأم ابنها, ولم تحترم حتى المقدسات التي يعتنقونها فألغتها جملة وتفصيلا, فصار أفراد هذه الفئة ينفرون من الزواج خوف الفرقة, وينفرون من الإنجاب خوف قتل الأبناء وينفرون من إظهار الفكر والمعتقد خوف القتل, بل وينفرون من الحياة جملة كراهية للخوف المسيطر علي حياتهم, فصار الأفراد يشعرون بعدم قيمتهم كفئة وكأفراد, وصار كل ما يتملكونه في حياتهم هو لاشي, إذ أن أي شيء معرض للخطر بفعل هذه “القوة القهرية”, وفي هذه الظروف يفقد الانسان اهتمامه بالفكر أو الثقافة أو المجتمع أو أي شيء, إلا شيء واحد هو: كيف ينجو؟ كيف يرضي هذه القوة ويتجنب عقوبتها؟ فصارت الطفرة أو تركيبهم النفسي لا يؤمن إلا بالقوة ولا يسعى إلا إليها وإلى إرضائها, مع توقف كامل لعمليات الإدراك والتفكير, فلا نتيجة مرجوة من هذه العمليات العقلية في ظل هذه الظروف, لتبرز الإشارة الخفية بكم الرحمة المهداه لموسى حينما أُبعد عن هذا المجتمع وهو لايزال في المهد طفلا إلى أن بلغ أشده واستوى, ليتميز عن هذا المجتمع المتخلف فكريا وثقافيا وحتى إنسانيا, لينشئ نشئة يحترم فيها ذاته ويحترمه من حوله,وليكون النواه التي ستخرج وتحارب هذه القوة القهرية مرة أخري, وهذا بدوره يطرح سؤالا مكافئ للسؤال السابق: كيف سيكون حال هؤلاء الأشخاص إذا ما محيت القوة القهرية بصورة مفاجأة؟
ان أغلب أفراد هذا المجتمع والذي نُجِيّ من هذه القوة القهرية بصورة مفاجئة (نسبيا) ظلوا علي نفس التكوين الذي لا يؤمن إلا بالقوة ولا يسعى إلا لها وإليها, فتراهم يخالفون تعليمات النبي ولا يقبلونها إلا إجبارا, وتراهم لا يؤمنون بالنقاش ولا بإعمال العقل, بل وتجاوز الأمر لبغضهم لكل من يطالبهم بإعمال عقلهم, ومخالفتهم لأبسط أنواع المنطق, الأمر الذي يُشعر المراقب لهذه الفترة أن هؤلاء الأفراد كانوا يعانون نقصا حادا في الإدراك الذي قد يتمتع به طفل صغير, وتعطيلا كاملا لمنطق الدلالة والاستنتاج أدى إلى كل هذا الكم من التخلف الفكري الحاد, لنعود مرة أخري ونعزو هذه الظاهرة بصورة أساسية إلى #القوة القهرية التي قطّعت أوصال هذه الفئة, بل وحتى قطعت أوصال الإنسان بينه وبين نفسه, وجعلت غرائز الإنسان الواحد تستبد بعضها ببعض.
ومن هنا نكرر مرة أخري علي أن العمل علي إزالة القوة القهرية بصورة مباشرة بعيدا عن تعديل التكوين النفسي لدى مجتمعنا الواقع تحت تأثيرها يعد نوعا من أنواع العبث, وهذا التعديل يكون أولا بإدراك كل ما سبق ثم بإعمال العقل جاهدا لترسيخ مبدأ أن “الفكرة أقوى من أقوى قوة” في النفس وبين أفراد مجتمعنا , وأن “القوة القهرية” هي البديل المباشر للفكر, فإذا وجد أحدهما انعدم الآخر
.
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.