تجربة القرود الشهيرة التي تخاف من الموز
أعتقد أن الكثيرين قد سمعوا عن تجربة القرود الشهيرة التي قام فيها العلماء بوضع بضعة قرود في قفص به سلم، وفي أعلى السلم وضع الكثير من الموز، لكن الخدعة كانت في رش القرود بالماء الساخن كلما حاول أحدهم تسلق السلم ولمس الموز، فاعتادت القردة على وجود الموز دون لمسه ومنع أي قرد آخر من الصعود، ثم قاموا تدريجيا باستبدال قرود أخرى لم تُرَش بالماء من قبل بالقرود الموجودة ، فما كان من القرد الجديد إلا أن حاول الصعود إلى الموز، لكن بقية القرود كانت تمنعه وتنهره عن ذلك، وظلت تلك التجربة فترة حتى أصبحت جميع القرود الموجودة في القفص جديدة ولم تمر بتجربة الماء الساخن، لكنها كانت قد اعتادت على منع أي قرد من الصعود إلى الموز، دون معرفة السبب الحقيقي أو الإحساس بالماء الساخن، فبدلا من حب الموز والرغبة في أكله تولد لديها خوف من الموز.
الاستنتاج من تجربة القرود أنه قد تكون هناك بعض العادات -التي قد تبدو في ظاهرها غير منطقية- في حياة الإنسان يمارسها دون معرفة أسبابها ويخشى تغييرها خوفا من المجتمع.
ثم ظهر الاعتراض على تلك التجربة بأنها قامت على الحيوان بينما الإنسان يختلف كثيرا عن الحيوان بتميزه الواضح بالعقل الذي يؤهله لمفاهيم عالية مثل التضحية والإيثار والعدالة.
حسنا لم ييأس العلماء وقاموا بتجربة جديدة مشابهة لتجربة القرود لكن في هذه المرة على البشر أنفسهم، حيث وضعوا مجموعة من الممثلين في غرفة انتظار إحدى العيادات الطبية وكانوا قد اتفقوا معهم على الخدعة التالية: سيصدر صوت جرس أو صافرة بين الفينة والأخرى يقوم على إثرها الممثلون بالوقوف في هدوء لعدة ثوان ثم العودة للجلوس مرة أخرى.
بدأت التجربة عند دخول أول ضحية، والتي لم تكن على علم بالخدعة، رنّ الجرس فوقف كل الممثلين لعدة ثوان ثم عادوا للجلوس، تفاجأت السيدة من ذلك الفعل لكنها لم تستجب في أول الأمر، لكن بعد مرات قليلة بدأت بالوقوف مثلهم، وجاءت ضحية ثانية وثالثة، وأيضا بصورة تدريجية تم سحب كل الممثلين وترك الأفراد الذين لا يعلمون شيئا عن التجربة، كانت النتيجة أنهم يقومون بنفس الفعل الذي لا معنى وله ولا مغزى من ورائه دون معرفة الأسباب، وهنا تنتهي التجربة.
ما الذي دفع أولئك الأشخاص إلى الاستجابة لذلك الفعل غير المنطقي وغير المبرر؟! ما الذي يدفع أي إنسان للقيام بأي فعل دون فهم ووعي لأسبابه؟
إنه تأثير الجماعة من حوله، وذلك التأثير ترجع أسبابه لطبيعة الإنسان؛ بمعنى أن الإنسان خُلق وفُطر على الاجتماع، أي أنه كائن اجتماعي لا يستطيع العيش بمفرده وبمعزل عن بقية البشر طيلة حياته، ولأنه يحتاج للمجتمع فهو يحتاج للاندماج في ذلك المجتمع ، ومن متطلبات ذلك الاندماج هو قبول ورضا المجتمع له، مما يجبره على السعي للقيام بأعمال لا تنبع مما يقتنع به لكن تنبع من رغبته في الحصول على موافقة المجتمع له.
لكن مهلا لحظة! ألم نقل إن الإنسان يتميز بالعقل الذي يستطيع انتزاع المفاهيم المجردة وإدراكها إدراكا تاما؟ فأين دور العقل في القبول المجتمعي؟ ولماذا لم ينتبه العقل أن القيام لبضع ثوان استجابة لصوت صافرة ثم الجلوس مرة أخرى دون أي هدف هو فعل غير عقلاني بالمرة؟!
إن العقل في هذه الحالة قد غاب وتوقف عن العمل، نعم توقف عن التفكير في أسباب الفعل وغايته، ولم يهتم سوى بالاندماج في المجتمع، كان الشعور بالغربة أو بالأحرى الخوف من الشعور بالغربة أقوى بكثير من قدرة احتمال الفرد على التساؤل والتفكير في الأسباب. إن الصمود أمام المجتمع يتطلب قدرا كبيرا من الشجاعة والتي بدورها تتطلب قدرا أكبر من العقل والتعقل. إن غلبة الخوف على العقل ما هي إلا بسبب ضعف في الرؤية العقلانية للفعل الصحيح، فالإنسان الذي اعتاد الانصياع للأوامر دون مناقشتها أو معرفة أسبابها أو حتى محاولة فهمها فهما صحيحا قد تشوهت لديه فطرته السليمة التي كانت دوما تدفعه للتساؤل عن معاني الأشياء وأسبابها. للأسف هذا النموذج منتشر جدا في مجتمعنا اليوم، وهو يمثل القاعدة العريضة منه، ويمثل القوة الضاغطة الرافضة لأي تغيير، لأن التغيير هنا معناه غربته وهو ما لا يطيقه.
إن اجتماع الناس على فكر واحد دون دليل على صحته، وخضوعها لذلك الفكر بل فرضها له على الآخرين هو ما يسمى بالعقل الجمعى، هو ما يعتقد البعض أنه سبب كاف للقيام بأفعال حتى لو كانت تخالف فطرتهم أو تنقضها دواخل نفوسهم، تجد المقولة السائدة عندهم (كل الناس بتعمل كده، كل الناس بتفكر كده)، وإن لديك مبررا للقيام بنفس الفعل ونفس الفكر دون التفكير في الأسباب أو حتى مراجعة العواقب من ذلك الفعل.
ويبدأ استخدام ذلك العقل الجمعي في تبرير الكثير من الأخطاء المجتمعية، ويتحول ذلك العقل الجمعي إلى الشماعة التي يعلق عليها الناس جهلهم وضعفهم عن التغيير وتصحيح الأخطاء، لأنه من الأسهل الانجرار مع التيار بدلا من مقاومته ومحاولة تقويمه كما انقاد القرد الجديد لزملائه القرود.
ولكن يتبادر إلى الذهن تساؤل مهم: هل كل أفكار العقل الجمعي خاطئة ولا دليل عليها؟ أو بصياغة أخرى هل كل العادات والتقاليد التي توارثناها من أجدادنا مرفوضة؟ الإجابة بالطبع لا، على العكس هناك الكثير من العادات الصحيحة التي ثبتت صحتها بالدليل والبرهان.
من هنا تظهر أهمية استخدام العقل وتقويته، لأنه الأداة الأولى للتمييز بين ما هو صحيح وما هو خاطئ، بين ما قام عليه الدليل والبرهان وما يُعتبر (هو كده).
ولا سبيل لتقوية العقل وتوضيح المعايير الصحيحة للحياة إلا بدراسة العلوم العقلية؛ علوم المنطق ومناهج التفكير، إنها تلك العلوم التي تضبط آلة التفكير وتضع كل ترس من تروسها في مكانه الصحيح لتعمل الآلة بصورة صحيحة وتنتج الفكر السليم، حينها يستطيع ذلك الشخص ليس فقط تمييز أخطاء العقل الجمعي بل محاولة إصلاح المجتمع وإصلاح مفاهيمه. على أقل تقدير إنشاء مجتمع صغير من حوله؛ من أهله وأقاربه وأصدقائه، يشدهم معه إلى طريق النور والحقيقة، طريق العقل والدليل. طريق العقل الذي يصنع لنا المبادئ والقيم التي نضعها قوانين لحياتنا.
وكلما ازدادت تلك القيم والمبادئ وضوحا في عقولنا وثباتا في نفوسنا استطعنا على إثرها مقاومة الخاطئ من العقل الجمعي، وتوقفنا عن الانسياق وراء الأكثرية الجاهلة، استطعنا المضي طبقا لمعتقداتنا التي أثبتناها بالدليل القطعي حتى لو جوبهنا بالرفض المجتمعي. وذلك يحتاج إرادة قوية لتنفيذ ما وصل إليه العقل البرهاني، الإرادة التي تُخرج القيم والمبادئ من حيز الأفكار إلى حيز العمل والتنفيذ، بممارسة السلوك المطابق للمبادئ حتى مع رفض وتعجب المجتمع من حولنا، حتى إذا واجهنا صعوبة التنفيذ في البداية، إصرارنا حتما سيوصلنا لمبتغانا. فيصبح ذلك الإنسان العاقل لبنة بناء المجتمع الفاضل ولا يصبح فرد في قطيع القرود.
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.
.