فقرة الإعلانات: فاصل ونواصل
مشكلتي مع العالم أن الحياة كان من الممكن أن تكون أفضل مما هي عليه، ولكن الإنسان يصر على أن يضع لمسته الجمالية لتزيده سوءًا، تلك المقولة التي ترد في بالي عندما أتجول في الشوارع والحارات.
عندما أتنقل بين محطات التليفزيون باحثًا عن شيء لا أدرى ما هو بالتحديد، لكني سأعرفه عندما ألقاه، أظل أقلّب وأقلّب حتى أجد فيلمًا كلاسيكيًا يناسب الحقبة الثمانينية التي أنتمي لها، ثم تتعطل وظائفي كلها عدا دوائر الاستقبال وأبدأ في متابعة ذلك الصديق المربع. تبدأ الإفاقة في الفواصل الإعلانية ووقتها تراودني الأفكار والتحليلات، تعود إلى ذهني نفس الفكرة، التركيبات والدهانات والتكليفات التي طعمنا بها الحياة فصارت مسخًا لامعًا يحسبه الرائي إلهًا من كتب الأساطير.
فقرة الإعلانات
من الأفكار التي ترد في ذهني في فقرة الإعلانات أنها تمثل التطبيق العملي للفيلم التي يسبقها، الأفلام تتكلم عن أفكار معينة وتعرض رؤى مختلفة ثم تأتي لك الإعلانات لتريك كيف تطبق تلك الأفكار على أرض الواقع، كمية من الأفكار والإبداعات والأموال والمجهود يتم تكريسها وتوجيهها لتشكيل أجيال مشوهة، مخلوقات لها أشكال بشرية ورغبات ومُدركات حيوانية.
ذات مرة رأيت إعلانا عن أحد التليفونات المحمولة، يتكلم عن فتاة تتمرن في صالة جيم ومع كل حركة تلتقط صورة ذاتيه لها (سيلفى) وينطلق الصوت الحكيم يتساءل لماذا يقوم الشباب بتصوير أنفسهم قبل وبعد وخلال؟ ثم تأتى الإجابة النورانية “لأن تلك حقيقتنا”، ثم يعرض التليفون المحمول الذي تم إنتاجه مخصوصًا لمهاويس التصوير الذاتي. إعلان آخر عن منتج نسائي يشرح ضرورة أن تشعر المرأة بالقبول في عملها عن طريق أن تهتم بأنوثتها ونضارة بشرتها، حتى لا يبدأ زملاؤها الرجال بمناداتها باسم “حسن”، ثم يأتي الحل السحري بالكريم الخطير ويتبدل حال تلك المرأة البائسة وينظر لها أقرانها نظرة التبجيل والإجلال.
لم يهتم الإعلان بالخلل في القضيتين؛ بحب الذات والغرور في الإعلان الأول، و التحرش البصري واللفظي في الإعلان الثاني، بل وظف ذلك الخلل الأخلاقي واستغله ليروج عن منتجات له، وتلك صفة منتشرة بين الشركات مصاصة الدماء أن تستقرئ شهوات ورغبات المجتمع ثم تضع خطة إعلانية تستفز تلك الشهوات وتوجهها بشكل نفسي لكي تشترى وتستهلك منتجاتها.
سرقة الوعي للمزيد من الاموال
الأفكار التي تتبناها تلك الشركات سواء التي تصنع الأفلام أو الإعلانات التجارية هي أفكار نفعية تهتم فقط بمصلحة رأس المال، فالشيء الذي يزيد من رأس المال وينميه هو الصحيح الذي يجب أن نقوم به، وهي فلسفة قائمة على مركزية الإنسان وحق القوة وُلدت في أوروبا في عصر النهضة ونجت من الحروب العالمية واستقرت في أمريكا، هي فلسفة تؤمن بنسبية القيم والفضائل، قيم نفعية لا تهتم بصناعة الإنسان، بل ترمى إلى سرقة الإنسان، كيف تمتص العصارة والحيوية من العالم والإنسان وتنقلها إلى بطون الأموال ومالكي القوة والسلطة.
الميديا في المجتمع الفاضل
في الحقيقة عندما نتصور كيف تكون الميديا في عالم فاضل أو مجتمع فاضل يمكن أن نتصور حاكمية القيم وثبوتها على مؤسسات الفن والثقافة، مؤسسات تجبرها القوانين على عدم مخالفة معايير العمل الفني “الهادف”.
في المجتمع الفاضل لا بدّ للمؤسسات التي تعلن عن المنتجات الشرائية والتي تصنع الأفلام أن تراعى حقيقة الإنسان ورغباته واحتياجاته ومخاطبة العقل وصناعة الوعي، فتلك المؤسسات تملك القوى السحرية للتربية والتنمية، تستطيع تلك القوى الناعمة إذا تمت عقلنتها وترشيدها أن تصنع ذلك الإنسان الذي يمكن أن نعتبره بالفعل الإنسان الكامل.
اقرأ أيضاً:
الكوميديا وعلاقتها بالغزو الثقافي
تأملات في مسلسل ذئاب الجبل
حمزة نمرة وأغنيته الأخيرة: داري يا قلبي
عدد الزيارات : 892