مقالات

يوريكا.. يوريكا! – لحظة الكشف العلمي من الخيال إلى الواقع

يوريكا Eureka (εὑρηκα).. كثيرًا ما تُستخدم هذه الكلمة للإشارة إلى لحظة الكشف العلمي، تلك اللحظة الفارقة التي تُولد فيها فجأة فكرةٌ عبقرية في ذهن العالِم أو الباحث، فتفصل بين ما هو غير موجود وما هو موجود، أو بالأحرى بين ما هو غير معروف للمجتمع العملي وما هو سائد ومستهلك حتى بات غير مُشبع لمعالجة مزيد من الوقائع، فما الذي يدفع إلى مثل هذه اللحظة؟ وماذا يُمكننا أن نفعل لكي تأتي إلينا ونختبرها تكرارًا؟!

غالبًا ما يُنسب نُطق الكلمة في سياق العلم إلى الرياضي والفيزيائي الموسوعي اليوناني “أرخميدس” (Archimedes 287 – 2012 ق.م)، الذي واتته أثناء تواجده في حوض الاستحمام فكرةٌ رائعة أدت إلى المبدأ الذي أصبح معروفًا باسمه، وهو الحدث الذي حوَّله المهندس المعماري الروماني “فيتروفيوس” (Vitruvius) بعد قرنين تقريبًا إلى القصة التي نعرفها اليوم.

كان ملك سيراقوسة (Siracusa) –مدينة في جنوب صقلية– قد كلَّف صائغه بأن يصنع له تاجًا من الذهب الخالص، وبعد أن انتهى الصائغ من مهمته وسلَّم التاج إلى الملك، شك الأخير أن الصائغ قد غشه بإضافة النحاس أو الفضة إلى التاج، فأسند إلى أرخميدس أمر التحقق من هذا الأمر دون إتلاف التاج.

ظل أرخميدس منشغلًا بهذه المُعضلة، عاجزًا عن إيجاد حلٍ لها، إذ لم يكن التحليل الكيميائي معروفًا في زمنه، وبينما كان يغتسل في حوضٍ بحمَّامٍ عام لاحظ أن منسوب الماء قد ارتفع عندما غمس جسمه فيه، وأن الماء يرفع رجليه إلى أعلى كلما دفعهما هو إلى الأسفل، وأن هناك قدرًا من الماء ينزاح نتيجة لذلك.

استنتج أرخميدس على الفور أن “مقدار قوة الطفو المؤثرة على جسم مغمور جزئيًا أو كليًا في سائل لا يذوب فيه ولا يتفاعل معه لا بد أن تساوي وزن السائل الذي يزيحه الجسم عند غمره فيه”، وأدرك أن حجم الجسم غير المنتظم –تاج الملك– يمكن أن يُقاس بدقة، بينما كان سابقًا يُقدر بالنسبة إلى أقرب شكل هندسي، وقد كان متلهفًا لتطبيق ما اكتشفه، فانطلق إلى الشارع عاريًا، يجري ويصيح فرحًا: “يوريكا.. يوريكا”، أي “وجدتُها.. وجدتُها”، وما إن عاد إلى بيته حتى أخرج التاج ووزنه، ثم وضعه في الماء لملاحظة انزياح الماء، ثم جاء بقطعة من الذهب الخالص وزنها مساوٍ لوزن التاج، فوجد أن كتلة الماء المزاح في حالة التاج تختلف عن كتلة الماء المزاح في حالة الذهب الخالص وذلك نظرًا لاختلاف دفع الماء على كتلة كل من الجسمين، وتيقن أن التاج ليس مصنوعًا بأكمله من الذهب الخالص، وهو ما أدى إلى قيام الملك بقطع رأس الصائغ!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

من المفارقات الغريبة في هذا الصدد أن جُنديًا رومانيًا جاهلًا قد قام بقتل أرخميدس في لحظة تأمل مماثلة لتلك التي استغرقته أثناء استحمامه ودفعته إلى الركض في الشارع عاريًا، كان ذلك بعد هجوم الرومان على سيراقوسة، إذ كان أرخميدس عاكفًا على حل مسألة رياضية في منزله، لا يدري شيئًا عن احتلال المدينة من قبل الرومان، وبينما كان يرسم إحدى مسائله الرياضية على الرمال، دخل عليه الجندي الروماني وأمره أن يتبعه لمقابلة القائد العسكري “ماركوس كلاوديوس مارسيلوس” (Marcus Claudius Marcellus 268 – 208 ق.م)، فرد عليه أرخميدس: “يا هذا، من فضلك لا تفسد دوائري!” (Do not disturb my circles)، أي لا تدهسها فتخل بها، وطلب منه أن يُمهله حتى ينتهي من عمله، فاستشاط الجندي غضبًا وسلَّ سيفه وطعنه دون تردد، وسقط أرخميدس على الفور غارقًا في دمائه، وسرعان ما لفظ أنفاسه الأخيرة!

على العكس من أرخميدس، كان “إسحق نيوتن” (Sir Isaac Newton 1642 – 1727) يرتدي ملابسه كاملةً عندما توصل إلى نظريته في الجاذبية، لكن الفكرة فاجأته بشكلٍ مماثل، وقد وصف تجربته في هذا الكشف كاتب سيرته الذاتية عالم الآثار الإنجليزي “ويليام ستوكلي” (William Stukeley 1687 – 1765)، الذي كتبها سنة 1752 ونقلها إلى الأجيال التالية، إذ جاءت على النحو التالي: “بعد العشاء، كان الطقس دافئًا، ذهبنا أنا ونيوتن إلى الحديقة واحتسينا الشاي تحت ظلال بعض أشجار التفاح، أخبرني نيوتن أنه كان في الموضع ذاته، يجلس في مزاج تأملي حين ضربت رأسه فكرة الجاذبية، بعد أن سقطت عليه تفاحة!”.

كذلك كتب عالم الكيمياء والأحياء الدقيقة الفرنسي “لويس باستور” (Louis Pasteur 1822 – 1895) عن اللحظات الكشفية الفارقة، وإن كان أقل حماسةً، إذ أشار إلى أن الحظ في العلم إنما يكون حليفًا للمستعدين له، وأهم استعداد في نظره هو التعليم الجيد الذي يتضمن بالضرورة ممارسات مُختبرية متكررة يمكن أن تؤدي إلى كثرةٍ من لحظات اليوريكا!

شارك “آلبرت أينشتين” (Albert Einstein 1879 – 1955) أيضًا بعض العناصر مع أرخميدس ونيوتن فيما يتعلق بلحظة التوصل لنظريته العامة في النسبية، إذ وصف الحدث في حوار مع صحافي من صحيفة نيويورك تايمز زاره في منزله في برلين، وقد نقله الصحافي بدوره قائلًا: “كان أينشتين يعيش في الطابق العلوي من منزلٍ سكنيٍ عصريٍ في إحدى البقاع القليلة المرتفعة في برلين، بالقرب من النجوم التي يدرسها –إن صح التعبير– ليس باستخدام التليسكوب، وإنما بالعين العقلية المنشغلة دومًا بمعادلاته الرياضية، فهو ليس عالم فلك، بل عالم فيزياء.

لقد لاحظ منذ سنوات من مكتبته الأنيقة، التي أجريت فيها هذا الحوار، رجلًا يسقط من سطحٍ مجاور –لحسن الحظ– على كومةٍ من القمامة الناعمة، ثم يقف ويُغادر المكان دون إصابات تقريبًا. أخبر هذا الرجل أينشتين أنه عند سقوطه لم يشعر بأي إحساس يُنظر إليه عمومًا على أنه تأثيرٌ للجاذبية، من شأنه –وفقًا لنظرية نيوتن– أن يسحبه بعنف نحو الأرض! وانطلاقًا من هذه الواقعة بدأت في ذهنه سلسلة معقدة من الأفكار التي أدت في النهاية، لا إلى التنصل من نظرية الجاذبية لنيوتن، وإنما إلى تكملتها أو إثرائها!”.

رفض عددٌ من العلماء والمؤرخين رواية أينشتين بوصفها روايةً مُلفقة، وقد اعترف هو ذاته في نهاية حياته بأنه لم يكن هناك كثيرٌ من الحقيقة في وصف العلماء، بمن فيهم نفسه، لكيفية توصلهم إلى اكتشافاتهم، وصرَّح قائلًا (في مقابلة مع أحد المحاورين): “إن أسوأ شخص يوثق أية أفكار حول كيفية حدوث الاكتشافات هو المكتشف ذاته!”.

غالبًا ما يُطلب من العلماء البارزين تفسير كيفية توصلهم لأفكارهم العبقرية، والرد الشائع هو أن الاختراقات تظهر أثناء النوم كرؤى مفاجئة. لقد أصبحنا الآن نعرف كيفية ترتيب العناصر في الجدول الدوري [ديميتري مندليف (Dimitri Mendeleev 1834 – 1907)]، والتطور عن طريق الانتخاب الطبيعي [تشارلز داورين (Charles Darwin 1809 – 1882)، وألفريد راسل والاس (Alfred Russel Wallace 1823 – 1913)]، وكيمياء الإشارات العصبية [أوتو لوي (Otto Loewi 1873 – 1961)]، وبنية الحمض النووي [جيمس واتسون (James Watson من مواليد سنة 1928)]، وغير ذلك من كشوفات تجلت كرؤى مفاجئة تجلب عوالم أخرى خيالية إلى هذا العالم.

من جهة أخرى، تُؤخذ شهادة العلماء عادةً بأثر رجعي، أي بعد فترة طويلة من اقتناع المجتمع العلمي والجمهور بأهمية الكشف العلمي، أما الجانب الاجتماعي للكشف فليس دقيقًا ولا مفاجئًا، لكنه على العكس من ذلك متنازعٌ عليه إلى حدٍ كبير، وغالبًا ما يتسم بنزاعات مريرة حول أولوية نسبته إلى أحد العلماء، الاكتشافات المتزامنة (أو شبه المتزامنة) هي القاعدة وليست الاستثناء في العلم، ولهذا السبب غالبًا ما يحدث جدل بين مؤرخي العلم حول الشخصية التي يجب أن يُنسب إليها الكشف.

في بعض الأحيان يُعزى الكشف إلى العالِم الذي لاحظ أولًا جانبًا جديدًا من جوانب الطبيعة، وفي أحيان أخرى إلى الشخص الذي كان لديه فكرة أدت إلى ملاحظة قام بها شخص آخر، وفي أحيان ثالثة إلى أول من قدم تفسيرًا نظريًا صحيحًا، وقد يعتمد المعيار الحاسم على من نشر أولًا، ونظرًا لأن معظم الروايات حول الكشف العلمي تصف لحظات مفاجئة وشخصية وغير مفهومة، فقد تخلى معظم العلماء والفلاسفة ببساطة عن دراسة العملية دراسة أكبر، بحجة أن الكشف بمثابة فن خاص جامح للغاية وغير مكتمل وزلق، بحيث يستعصي على النظر الجاد في الواقع. ونظرًا لأن تفسيرات الكشوف العلمية تتبدى بالفعل كأساطير –على حد تعبير “هانز ريتشينباخ” (Hans Reichenbach 1891 – 1953)– فمن الأفضل تجاهلها ودراسة الجوانب التي يمكن أن تكون موضع اختبارٍ تجريبي.

مع ذلك، ما زلنا مفتونين بالموضوع، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن الكشف العلمي يُغير ما ندرجه في قائمة الموجودات، إذ يُضيف عادةً أشياء جديدة كانت غائبة عنا أو في عداد الخيال، لكنه في أحيانٍ أخرى يُزيل أشياء كنا نعتقد بوجودها بشدة ذات يوم، مثل الفلوجستون (Phlogiston)، والهستيريا (Hysteria)، والسيال الحراري (Caloric)، والأثير (Ether)، والزمان والمكان المطلقان، وغيرها، وعندما نكتشف شيئًا جديدًا، نُقرر بأثرٍ رجعي أنه كان دائمًا موجودًا بالفعل، وأن الماضي بأكمله في حاجة إلى إعادة تقييم.

لذا نحن نعلم الآن أن الانفجار العظيم كان نقطة البدء في نشأة الكون، وأن الديناصورات جابت الأرض ذات مرة، وأن الملك “توت عنخ أمون” قد عانى من الملاريا، وربما مات بسبب مضاعفات هذا المرض. أما في الحالة التي يؤدي فيها الكشف العلمي إلى القضاء على ما كنا نعتقد بوجوده، فما أسهل أن نعزو الاعتقاد في وجود هذا الشيء إلى التفكير الخاطئ والافتراضات الخاطئة!

غني عن الذكر أيضًا أن ثمة اختلافًا بين الأشياء التي تلج في عالمنا عن طريق الاكتشاف (Discovery)، وتلك التي نصل إليها عن طريق الاختراع (Invention)، فالاكتشاف يتضمن الاعتقاد بأن الكيان المعني موجود –أو كان موجودًا– بالفعل، أما الاختراع فيُفهم عمومًا على أنه خلق أو ابتكار شيء جديد. كانت الجاذبية موجودة قبل نيوتن، وكانت النسبية موجودة قبل أينشتين، وكذلك معظم الكيانات التي كشف عنها العلم، والتي تصعب أو تستحيل ملاحظتها، من الإلكترون إلى بوزون هيجز (Higgs boson)، وفي المقابل لا يستطيع أحد أن يزعم أن المحرك البُخاري أو الهاتف أو السيارة هي كيانات كانت موجودة قبل اختراعها، على الأقل بذات الطريقة التي نعزو فيها الوجود إلى الجاذبية أو الإلكترون أو بوزون هيجز!

أدرك أينشتين هذا الفرق بين الاكتشاف والاختراع، وعبَّر عنه بقوله: “إذا لم يعش نيوتن وليبنتز (Leibniz)، لكان شخصٌ آخر قد توصل إلى اكتشافاتهما، بينما لو لم يكن بيتهوفن (Beethoven) قد عاش، لما استمعنا إلى سيمفونية إيرويكا (Eroica Symphony)!”، ومع ذلك، يبدو الإبداع ضروريًا لكل من الاكتشاف والاختراع على حدٍ سواء.

إذا تمسكنا فقط بوجهة نظر عالم الفلك الأمريكي كارل ساجان (Carl Sagan 1934 – 1996)، تلك التي وصفها في كتابه الأشهر “عالم تسكنه الشياطين” (The Demon-Haunted World 1995)، فسيكون من المغري أن نعد العلم مجرد عملية فعالة للقضاء على الدجل والخرافات والمعتقدات الخاطئة، لكن ميدان العلم أوسع من ذلك بكثير، إذ تعتمد أقوى خصائصه على كيفية استخدامه لتغيير العالم، من خلال إدخال تصورات وتقنيات وابتكارات جديدة إلى حيز الوجود.

إن الدرس الأولي الذي يقول إن الجان والعمالقة مخلوقات أسطورية لا وجود لها في العالم الحقيقي، يتضاءل مقارنةً بفهم كيفية عمل المحركات وأجهزة الكمبيوتر والقنابل النووية وتقنيات الواقع الافتراضي، ولن يفتأ قطار الكشف العلمي أن ينطلق بنا عبر محطات تنتظر فيها كائنات ميتافيزيقية تُشبه إلى حدٍ كبير “شيطان لابلاس” (Laplace’s demon)، نسبة إلى الرياضي والإحصائي الفرنسي بيير سيمون لابلاس (Pierre-Simon Laplace 1749 – 1827)، والذي يُعد تعبيرًا علميًا بارزًا عن الحتمية السببية، وشيطان ماكسويل (Maxwell’s demon)، نسبة إلى الرياضي والفيزيائي الأسكتلندي جيمس كليرك ماكسويل (James Clerk Maxwell 1831 – 1879)، وهو بمثابة تجربة فكرية من شأنها أن تنتهك القانون الثاني للديناميكا الحرارية وتُقلل إنتروبيا النظام، ومن ثم تُحفز الباحثين على تطوير آلات أكثر كفاءة، وشيطان ديكارت (Descartes’s demon)، وهو مفهوم معرفي ابتكره رينيه ديكارت (René Descartes) في القرن الثامن عشر، مُتخيلًا قدرته على خداعه والسيطرة على حواسه وتثبيت واقع بديل، وما زال العلماء يستخدمونه لفهم كيفية عمل عقولنا وتطوير تقنيات أفضل للواقع الافتراضي!

على الإجمال، ربما كان في وسعنا أن نقول إن التخيل، في معية القدرة على تهذيب الخيال وتحويله إلى واقع، هما ديدن العلم، ماضيه وحاضره ومستقبله، بدايته ومنتهاه، وربما ظلت بوابة الانتقال من الخيال إلى الواقع، ومن اللا وجود إلى الوجود، شيئًا هُلاميًا زلقًا يصعب الإمساك به!

مقالات ذات صلة:

الكشف الأكثر غرابة في الفيزياء الكمية

طقوس العلماء وغرائب العبقرية

الخيال الفرانكنشتايني

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية