وسط هذا الكم من الخطط و البدائل ، كيف أحدد أولوياتي وأختار الأنسب بينهم؟!
الحيرة بين البدائل المتعددة
من منا لم يواجه كل يوم، بل وكل ساعة العديد من الخيارات و البدائل ؟ ومن منا وجد الحيرة هي سيدة الموقف؟ ومن منا لم يتسائل مرات عديدة عن كيفية ترجيح طريق عن طريق آخر؟ أو بديل عن بديل آخر؟
ما هو المعيار الذي يساعدني في ترتيب أولوياتي بالشكل الصحيح دون ندم أو حسرة؟
سنحاول هنا في هذا المقال أن نصل إلى هذا المعيار.
طبيعة هذا الموضوع تجرّنا جبرًا إلى جزئيات الحياة؛ لأن الحيرة تصيبنا في الجزئيات التي نواجهها يوميًا والتي تتطلب الكثير من الفهم والحكمة حتى نستطيع أن نصل بحياتنا إلى بر الأمان، ولكن لن يكفي مقال أو عشرة مقالات في حصر جزئيات هذا الموضوع. ولذلك سنضطر للإجابة بشكل إجمالي وباستخدام الأفكار الكلية والقواعد العامة التي تنبثق منها جميع الجزئيات.
فلا تتوقع -عزيزي القارئ- أن الحياة ستغدو وردًا بعد الانتهاء من قراءة هذا المقال، بل بانتهائك من القراءة سيبدأ التحدي الحقيقي في قدرتك على إدراك المعيار الكلي الذي سنحاول الإشارة إليه ثم اسقاط جوهره على تفاصيل حياتك التي لا يملك زمامها إلا أنت، فتصبح أكثر وعيًا بقراراتك وبترتيب أولوياتك.
ما هو المعيار إذن؟
الوجهة الأساسية الكلية التي لابد أن تكون قراراتك وخياراتك في الحياة مؤدية في النهاية إليها هي “غاية وجودك” أو بمعنى أدق السبب الذي من أجله خُلقت.
غاية وجودك هي العلامة الأساسية التي من المفترض أن تحاول الوصول إليها أينما كانت نقطتك الحالية.
ربما يتسائل البعض، ما هي غاية وجودي إذن؟
غاية وجود الإنسان حتمًا مرتبطة بما يمتاز به من قدرة عقلية فريدة وإرادة اختيار حرة، وما ينشأ منهما من قدرة على التكامل أو التسافل.
فمثلاً الإنسان لديه قدرة عقلية تُمكِّنه من الفهم والتمييز ولديه إرادة حرة ليفعل، فإما إنه سيغذي قدرته العقلية بالنافع من المعرفة فيتكامل أو أنه سيغفل أو يتقاعس عن ذلك فيصبح عقله كالنائم أو الملغم بالضار من الأفكار والمعارف فيتسافل.
وكذلك الإنسان لديه قدر كبير من حرية اختيار الفعل، فإما أنه سيفعل الخير فيتكامل أو أنه سيفعل الشر فيتسافل.
وبما أن الفطرة التي يولد بها الإنسان فطرة خيرة، وأن العقل البسيط يميل دومًا لاستحسان العدل ونبذ الظلم، وبما أن جميع الأديان السماوية الصحيحة تدعو إلى الخير والتكامل؛ فإن غاية وجود الإنسان هي التكامل بشتى صوره.
التكامل يعني أن نرتبط بما يجعلنا أفضل فكرياً وأخلاقياً، وألا نتعلق بما ينزع منا إنسانيتنا وأن نترفع عن كل ما لا يليق بمقام الإنسان. والتسافل هو العكس بالتأكيد.
إذن؛ معيار الاختيار بين البدائل وترجيح الأولويات من المفترض أن يتم بناءًا على مدى تحقيق التكامل الإنساني والمجتمعي.
فإن احترت بين أمرين أو أكثر، فاسأل نفسك أيهما يصل بك إلى أعلى درجة ممكنة من التكامل الذي تطيقه حاليًا، سواء كان تكامل معرفي أو أخلاقي أو عملي، وسيكون هو الأولى وفي مقدمة أولوياتك.
فمثلاً من التكامل؛ ألا أرضى بالاستمرار في بيئة عمل تُفسدني أخلاقيًا بحجة الأموال التي أحصل عليها، فالأولوية للأخلاق التي أفقدها أم للمال! أو أن أفضل دراسة علم من العلوم الهامة لبناء فكري بشكل صحيح بدلاً من التفكير في الاستمتاع بالحفلات والسفريات فقط.
لا أرجو أن يُفهم من كلامي خطئًا ألا نسعى للحصول على المال أو ألا نسافر ونروّح عن النفس بالأنشطة الترفيهية المنضبطة، ولكن المقصود هو لفت النظر لكيفية تحديد الأولويات على حسب أهميتها والزمان والمكان المناسبين، ويكون المائز بين البدائل كما ذكرنا هو التكامل.
ماذا لو كانت جميع الخيارات جيدة وتقود إلى تكاملي ؟
لك إذن حرية الانتخاب بينهم وفق الميل القلبي بأن تختار ما تحبه طالما جميل الخيارات تحقق تكاملك، بل هو مطلوب أن تحب طريقك نحو التكامل حتى تستمر فيه، فالقلب دافع قوي للاستمرار.
أو تختار وفق الأيسر بالنسبة للظروف المحيطة مثلاً، كأن يرجح فرد وظيفة عن أخرى لإتاحتها في بلده فلا يضطر للغربة وبذل جهد هو في غنى عنه.
أو وفق الأحوج إليه مجتمعك والذي سيؤهلك بشكل أنسب لتطويره والمساهمة في نهوضه وإصلاحه، كأن يختار طالب أن يدرس علوم اجتماعية وفكرية بدلاً من دراسة الطب مثلاً؛ لأنه يرى أن المجتمع أحوج الآن وفي أمس الحاجة للإصلاح الفكري والأخلاقي، والمصلحون قليلون والأطباء كُثُر.
نصيحة أخيرة
لا تتعجل؛ فترتيب الأولويات كما عرضنا يقترن بمدى استيعابك النظري لمفهوم التكامل ومدى قدرتك العملية على تمييز الصواب والخطأ؛ حتى تستطيع أن تفرق بين البدائل التي تقودك إلى التكامل أو إلى التسافل.
ولكي تتقن الأمر؛ عليك بالعلم والعمل، فالحياة رحلة كلما نضجت علميًا وفكريًا؛ كلما ارتقيت وكنت على تحديد الصواب أبصر، وكلما مارست الصالح من الأعمال وحققت الفضائل الأخلاقية في نفسك ومع من حولك، كنت على نفسك أقوى وفي السعي أقدر.
وتنبَّه لخبرات غيرك فقد تختصر على نفسك سنوات من المحاولات الخاطئة بلحظات تأمل واعتبار في تجارب وأخطاء الآخرين.
اقرأ أيضا :
توهم المعرفة.. هل كل خريج جامعة يعتبر متعلم ؟
لُب الزيتونة .. البحث عن السبب الجذري أفضل من معالجة الآثار الناتجة عنه