مقالات

كيف نشأ الكيان الإسرائيلي الصهيوني؟ – الجزء الأول

انطلاقًا من القاعدة المنطقية البسيطة التي تؤكد ضرورة معرفة الشئ قبل الحكم عليه؛ حتى نتمكن من تحديد السلوك الصحيح تجاهه بمقتضى الحكم الصائب.

هذا ينطبق على القضايا كلها، فلسفية واجتماعية واقتصادية وسياسية، فهي قاعدة أولية تجمع تحت رايتها كل القضايا النظرية التي تعد خطوة أولى وأساسية لميلاد الخطط العملية التي تُحدد السلوكيات، وكلما كان الأساس المعرفي سليم نتج منه بروتوكول عملي سليم.

ولذلك عندما نتحدث عن القضية الفلسطينية، ونتجه إلى ذكر العدو الصهيوني وضرورة مقاومته للنهاية، فينبغي أن ننطلق وفق أساس معرفي سليم يحمي أذهاننا وأذهان أجيالنا من أية مغالطات فكرية مستهدفة، كذلك يدفعنا لخلق طرق أصوب وأعمق في فلسفة المقاومة بشكل عام.

وهنا عند الحديث عن الكيان الصهيوني، ينبغي أن نفهم كيف نشأ هذا الكيان؟ وما المقصود بالفكر الصهيوني؟ وما علاقة الدولة المزعومة إسرائيل بالصهيونية؟ وما علاقة الصهيونية بالغرب؟

وفي تلك القضية تحديدًا نستعرض آراء أحد مفكري العصر الحديث، د. عبد الوهاب المسيري -رحمه الله-، الذي قضى حوالي الربع قرن في دراسة وتحليل بنية العدو لتكوين نموذج معرفي يفسر من خلاله منشأ وسلوك الكيان الصهيوني ويحلل علاقته بكل ما ذكرنا، وهنا في هذا المقال وما يليه من أجزاء تكميلية له، نحاول شرح معنى عام وبسيط لما توصل إليه المسيري في كتابه “الصهيونية والحضارة الغربية” من طرح معرفي تفسيري للصهيونية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

نشأتهم الغريبة داخل المجتمع الإقطاعي

منذ نهاية القرن الرابع عشر الميلادي طرأ على المجتمع الغربي عدة تغييرات على المستويين المادي والحضاري، فيما يمكن تسميته بالثورة الرأسمالية، بعد أن كان المجتمع إقطاعيا مقسم تقسيما هرميًا، يعرف كل شخص فيه حقوقه وواجباته طبقا لمكانته المحددة في الهرم الإقطاعي.

كانت الجماعات اليهودية غريبة داخل المجتمع الإقطاعي، فلم يكونوا مواطنين أو فلاحين أو محاربين أو منتمين للكنيسة بطبيعة الحال، بل كانوا تابعين تبعية مباشرة للملك يتمتعون بمجموعة من الحقوق مقابل استخدامهم كأدوات إنتاج، فأصبحوا -كما وصفهم د. المسيري- جماعة وظيفية تابعة للطبقة الحاكمة، ووجودهم مرتبط بمدى نفعهم كأداة، وسط شعب لا يكن لهم حبا ولا عطفا.

تميزوا خلال تلك الفترة بميزات هيأت لهم الانفراد كتجار، من أهم تلك الميزات هي “حرية الحركة” فباقي الطبقات وظائف أفرادهم فيها مرهونة بالاستقرار، أما التجارة تتطلب حركة وتنقل وعلاقات.

تلخص وجودهم كعنصر استيطاني تجاري متحرك، أي جماعات وظيفية وسيطة غير متغلغلة داخل المجتمع، تؤمن بديانة معادية للديانة الرسمية (المسيحية)، وقد أخذت عزلتهم في الازدياد حتى تبلورت داخل الجيتو خلال القرن ال 15 م.

ما هو الجيتو؟

الجيتو هو مكان تجمع الجماعات اليهودية في شرق أوروبا، تحول تدريجياً من “مكان لليهود” إلى محاصرة وعزل لهم.
لم يندمج يهود شرق أوروبا في المجتمع كما فعل يهود غرب أوروبا، ولكنهم انعزلوا داخل أسوار الجيتو، ولم يكن هذا الانعزال شيئًا غريبًا في البداية طبقًا لطبيعة تقسيم المجتمع الإقطاعي، وتيسيرًا لأداء مهامهم، ولكنه تحول مع الوقت لمكان معزول عن المجتمع.

سمات مجتمع الجيتو:

• مكان يهرب إليه اليهودي من العالم الخارجي.
• تمارس فيه الطقوس اليهودية بدون حرج.
• يمتنع عن العمل يوم السبت لتعجيل عودة الماشيح المخلص لليهود ليقود شعبه إلى أرض الميعاد.
• الدراسة في بيت هامدراش (المدرسة الملحقة بالمعبد اليهودي) أو المدرسة التلمودية، وكان لا يدرس إلا التوراة والتلمود والمدراش.
• لا يدرس اليهودي تاريخ الأغيار، بل تاريخ اليهود فقط كما جاء في كتبهم المقدسة، وتعلم اللغات الجديدة يقتصر على لغات خاصة بهم؛ لأن النظر إلى أبجدية الأغيار كفر، وتعلم علوم الدنيا كالهندسة جهد لا طائل منه.
• حديثهم اليومي يتم بلغة اليديشية، وليس بلغة البلاد التي يسكنون فيها.
• إطلاق اللحية والسوالف يتم بشكل معين، بالاضافة للاغتسال والأطعمة التي يتناولوها.
• في الداخل الطمأنينة والأمان والإيمان، وخارج أسوار الجيتو عالم غريب شرير (معاد للأغيار – مؤمن أنه ينتمي إلى الشعب المختار).

المسألة اليهودية

كان الجيتو بمثابة الوجود المؤقت الذي يحفظ الإله فيه الأمة إلى أن يحين موعد عودتها إلى أرضها.

وتدريجيًا مع نشوء الثورة الرأسمالية، اهتز وضع التجار اليهود في التجارة الدولية، فلجأوا إلى التجارة الداخلية، ولكنهم واجهوا فيها التجار المحليين الذين فاقوهم في التعامل التجاري المحلي بحكم أنهم سكان أكثر اندماجًا داخل المجتمع ولعدة عوامل أخرى، حتى أصبحوا تدريجيًا عبء على المجتمع، أي جماعة وظيفية بلا وظيفة.

وهنا نشأت ما يسميه المسيري “المسألة اليهودية”، وهي تحول الجماعات اليهودية في الغرب من أداة إلى عبء، وكما هو واضح سبب هذا التحول هو تغييرات اجتماعية اقتصادية، وليس السبب اضطهاد الأغيار (غير اليهود).

وكما أنَّ الثورة الرأسمالية أدت إلى المسألة اليهودية، فقد أدت أيضا إلى نشوء الحل الصهيوني.

الصهيونية هي الحل الاستعماري للمسألة اليهودية.

لقد شبه بن جوريون في المنشور الذي صدر عام 1921 م عن المنظمة الصهيونية في بريطانيا العظمى بعنوان “الصهيونية”، شبه المعارك العنيفة التي خاضها الصهاينة ضد الفلسطينيين بتلك التي شنها المستوطنون البيض ضد الهنود الحمر، كما تحدث المفكر الصهيوني الروسي ليو بنسكر ” يتوجب علينا أن نرسل اليهود غير المندمجين والفائضين إلى مكان آخر”!

أقوال وتصريحات تكشف النوايا الحقيقية وراء نشوء الكيان الصهيوني داخل الأراضي المحتلة في فلسطين، ويوجد غيرها الكثير!
احتلال الكيان الصهيوني للأراضي الفلسطينية هو عملية إنشاء أكبر “جيتو” في العالم.

ولتوضيح ذلك بشكل أكبر، سنعرض نقاط التشابه بين الرؤية الصهيونية والرؤية الجيتوية والوضع الجيتوي:

• النظرة الثنائية

اليهود في الجيتو كان لديهم ثنائية اليهود والأغيار (والأغيار هنا هم سكان البلاد الأصليين في شرق أوروبا)
وإسرائيل لديها نفس الثنائية التي تظهر في الفكر الاستراتيجي ونظرية الأمن وهي حالة شك عميقة (والأغيار هنا هم العرب)

• الدور الوظيفي

الجيتو لم يكن منتجًا؛ بل كان يلعب دور الوسيط (الوظيفة كانت تجارية)
إسرائيل تلعب دور الوسيط بين الدول الإمبريالية والعالم العربي (الوظيفة تأديب العرب لحساب الغرب مقابل الحماية والدعم)

• الهامشية

الجيتو كان على هامش المجتمع الغربي
إسرائيل تصر على الانتماء جغرافيا -لا حضاريًا- داخل العالم العربي، فهي على هامش المجتمع العربي.
الاعتماد على الدول العظمى في حمايتها وتمويلها.

كل هذه عناصر وأكثر، تتشابه فيها الجيتو مع الوجود الاسرائيلي الناشئ عن الحل الصهيوني، ليؤكد لنا أنها عملية “نقل” تامة للجماعات اليهودية الفائضة و”إحلالهم” محل العرب في فلسطين، وإنشاء جيتو جديد – بعد فساد الجيتو القديم وفقدانه لوظيفته- يضم نفس مكونات الجيتو القديم على نحو إمبريالي يحفظ مصالح دول الغرب ويطورها في العالم العربي.

نستكمل الموضوع في المقالات القادمة إن شاء الله.

اقرأ أيضاً:

حضارة الغرب ثلاث حضارات

الصراع المحتوم

أوغــاد

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

هبة علي

محاضر بمركز بالعقل نبدأ وباحثة في علوم المنطق والفلسفة