ترهلات أخلاقية .. قصة قصيرة
كنا نسير أنا وصديق لي؛ فكان يقول أن عزيمته لم تعد قوية كما كانت وأنه تستعصى عليه بعض القرارات التي كان مثلها يتم اتخاذها بسهولة ودون تردد في السابق فأجبته؛ هل حين يتم عدم استخدام عضلة في الجسد هل تقوى على رفع ما كانت تستطيع رفعه في السابق؟
فقال لا
قلت؛ وماذا حدث هنا لكي لا يستطيع الإنسان رفع وزن ما كان معتاد على رفعه في السابق ؟
قال؛ أعتقد أن قوَّته قلت فلم يستطيع حمله.
النفس تشبه الجسد
فأجبته هذا صحيح، وهنا مربط الفرس؛ فالنفس تشبه الجسد حين يُهمل صاحبها تدريبها تضعف قوتها وحين يلتزم بترويضها وتدريبها تقوى، وتتجسد تلك القوة في قراراتها وسلوكياتها المختلفة، فلا تهمل تدريب نفسك كما تتدرب بدنيًا، فيُقاس ذلك بقدرة البدن على حمل أوزان معينة؛
فحين يألف تلك الأوزان يكتسب القوة فيحملها دون التعب الذى كان في أول الأمر، وكذلك النفس فتطبيعها على شيء ما بعينه يتطلب الكثير من الجهد والتعب في أول الأمر، وما إن اعتاد الشخص ذلك الطبع سهُل ويسُر فعله، واكتسب القدرة على عدم فعل سلوكياته السابقة.
التطبيق بالفعل لا بالقول
يسهل على العقل البشرى أن يصل لحقيقة حُسن العدل وقبح الظلم وذلك باستناده على قواعد تفكير سليمة بعيدًا عن المنفعة الشخصية أو الاستحسان الذوقي، ويأتي بعد ذلك صعوبة تطبيقه لذلك في سلوكياته بالمواقف المختلفة، فتجسيد تلك القيمة يتطلب خوض صراع نفسى يصعب على الكثيرين حسمه حين يكون العدل مخالفًا لمصالحهم أو مخالفًا لاستحسانهم الذوقي والميل العاطفي،
فمثلاً بائع يقسط في بيعه وتجارته مع علمه أن السلعة التي يُقدمها سيقدم على شرائها الكثيرون حتى وإن رفع من سعرها، وهنا قد حسم ذلك الشخص صراعه الداخلي بشكل ما مخالفًا لمصالحه المادية وأهوائه، فتمسكه بالقيمة هو ما دفعه لفعل ذلك؛ فما إن فرط المرء في قيمه التي علم أنها تقيم إنسانيته – تعينه على كماله الذى فيه سعادته – ولم يطبقها في سلوكياته؛ زالت وترهلت وأصبحت شعارات ينادى بها وبمرور الوقت زالت واندثرت،
والعكس صحيح؛ فإن بائع آخر وجد الفرصة ليستغل الناس فلم يراعِ قيمة العدل وترك نفسه لما تشتهى من المكسب المادي .
من أين يأتي التوافق؟
وهنا يأتي صراع المرء الهام؛ وهو أحداث التوافق بين قوى نفسه واحتياجاته المعنوية والمادية وترويض النفس على ما تم التيقُّن من صوابه، حتى لا ينجرف في حراك العقل الجمعي وسيطرة المادية على تفكيره ومن ثم طبعه، فما أن همَّ يروض نفسه؛ فلا بد أن يعي أن الرضا عنها سبيل ضياعها والغضب عليها بمثابة التدريب لها وإكسابها ما ينقصها من الفضائل وترك ما يشيبها من السوء،
وهذا ما ظهر في مثالنا السابق بأن البائع الأول لم يرض لنفسه بأن تكسب مخالفة قيمة العدل بعكس الأخر الذى كان راضيًا تمامًا على نفسه وتركها لشهوتها في الكسب المادي؛ حتى وإن كان مخالفًا لقيمة العدل، فمن يعِ ضرورة ذلك الترويض يرتكز على ميزان الثواب والعقاب محددًا بحزم أن ترك الحساب الذاتي لنفسه وعدم جلدها حين تخطئ؛ سيضيعها ويجعلها تستقى من أي إناء مهما كان طيب أو قبيح؛
فهي مثل الجسد أن تم ترك الاهتمام به أصابته الأمراض وترهلت قوته، فما إن تركها وأهملها؛ ترهَّلت أخلاقها وزالت قيمها وأصيبت بأمراض أخلاقية كالكبر أو الحسد أو الحقد وغيرهم .
القيم الإنسانية هي ما يجب أن يطمح إليه كل عاقل
لا فرق بين الإنسان والحيوان؛ إن ترك الإنسان الأهواء والشهوات تحركه واتجه نحو الاستهلاك المادي فقط، فما لحياته قيمة إذن !، فما يجب هو أن يعي بعقله قواه النفسية ويوجه تلك القوى بسد احتياجاته؛ وهو يسير نحو غاية ثابتة وهى ارتقائه وتكامله الذى تتمثل فيه سعادته الحقيقية، وهنا لا نترك كل ما هو مادى ولا نعرض كذلك عنه؛ بل نحدد أنه وسيلة يجب حسن استخدامها بقيم إنسانية خالصه تُترجمها أفعالنا، فهل سيجوع إنسان في عالم مليئًا بالخيرات ما إن كان ميزان العدل مطبق ؟!
وهنا تظهر قيمة وعظمة القيم الإنسانية؛ وهى ما يجب أن يطمح كل منا أن يربي نفسه عليها ، فمن الممكن أن يَستهلك المرء دون أن يعدل فيظلم نفسه بإشباع شهوته كأكله الكثير من الحلوى الذى من الممكن أن يسبب له مرض السكرى، ولكنه أن سد حاجته بعدل؛ أنصف لنفسه و كذلك في مختلف المواقف المجتمعية، فتطبيق كل امرؤ المبادئ الإنسانية في المجتمع؛ ينشر الحب بينهم ويحملهم إلى واقع يحلمون دائمًا بتحققه.
اقرأ أيضا: