توسيع الزنزانة .. الكتابة والحرية
كثيرًا ما رددت مقطوعة شعرية رائعة رائقة عميقة، كلما هممت لأكتب شيئًا معتبرًا، أو حتى متوهمًا، أن ممارسة الكتابة تقربني من التحرر والخلاص الذي أنشده. وهذه المقطوعة هي: “حريتي أن أوسع زنزانتي”، التي قالها محمود درويش في إحدى قصائد ديوانه الأثير “هي أغنية”، كأنه يلخص حال المواطن العربي، الذي يخطفه الحلم إلى حرية مجنحة، فيرده الواقع إلى رغبة فقط في توسيع الزنزانة، أو تحسين شروط الحياة داخل السجن الكبير.
ومع شعار “تدرجوا حتى تنضجوا فتنالوا حريتكم” المرفوع في وجه كل من يريد حرية حقيقية “الآن.. وهنا”، يرى المتشائمون أنه لم يعد أمام كل منا سوى أن يحمل زنزانته فوق ظهره، فتسير معه أينما حلّ، وليس له أن يتخفف أو يتخلص منها، بل عليه فقط أن يعوّد ظهره التحمل، أو يتودد إلى الزنزانة فلا تُثقل من حمولتها فتعجزه عن السير تمامًا، وهكذا حتى يصل إلى “المحطة الأخيرة” من عمره المترع بالشقاء.
المشكلة أن الزنزانة متعددة الجدران، فلا يكفي أن نهدم أحدها أو نصنع به كوة كافية لتهريب أجسادنا منها حتى نجد أنفسنا أحرارًا طليقين، بل علينا إما أن نمارس لعبة ترويض الوقت، أو أن نبحث عما نزيل به الزنزانة تمامًا، وعندها علينا أن نتحمل نتيجة المغامرة، فإما التحرر وإما الموت.
يقول الخائفون والمترددون منا علينا قبل أن نقرر ما سنفعل أن نقرأ موسوعة الباحث العراقي عبود الشالجي، التي وسمها بـ”موسوعة العذاب”، ليسرد في ثمانية مجلدات كاملة طرق تعذيب السجناء والمتمردين على السلاطين الجائرين في التراث العربي، ونضيف إليها ثمانية مجلدات أخرى من صنع خيالنا، أو نتاج بحثنا أو تجربتنا، عن التعذيب عند العرب المعاصرين. وقد تنفعنا قراءة روايات عبد الرحمن منيف وصنع الله إبراهيم، ويمكن أن نختتم القراءات بروايتين خفيفتين “العسكري الأسود” ليوسف إدريس و”السرداب رقم 2″ للعراقي يوسف الصائغ.
يسدي هؤلاء الخائفون النصح إلى من يتهم بعض الباحثين بالانزلاق نحو التحيز والانتقاء المتعمد الذي يحرف الحقائق، وإلى من يعتقد في أن ما بالروايات كله من صنع الخيال، أن يقرأ ما كتبه “الإخوان المسلمين” عن تجربتهم في سجون عبد الناصر، وما كتبه الشيوعيون عن عذابهم المرير في سجون صدام، وليتجول في السِّيَر الذاتية للمناضلين أو الرافضين العرب من المحيط إلى الخليج، سيجد أينما حل زنازين، كما تسمى في مصر، أو مهاجع كما يطلقون عليها في العراق والشام.
أما المتفائلون ممن لديهم العزم والجرأة على تحدى هذا كله دفعة واحدة، فسيهدمون الجدار الأول في زنازيننا، فتنقص الحمولة الثقيلة الجاثمة فوق ظهورنا، ويكون بوسعنا أن نزيد من تلاحق خطواتنا إلى الحرية، بخاصة إن كنا عازمين على هدم الجدار الثاني.
الجدار الثاني صنعه تجار الدين، الذين استغلوا حاجة الناس الروحية وإيمانهم العميق برب السماوات والأرض، وراحوا يشّيدون حائطًا عريضًا بينهم وبين جلال النصوص ومقاصد الشرع، بتأويلات بشرية، ادعى أصحابها أنها صحيح الدين، وما هي إلا محض اجتهادات تحتمل الصواب والخطأ.
وإذا تمكنا من هدم هذا الجدار عبر التفريق بين “الإلهي” و”البشري” والوصول مباشرة إلى النص المؤسس، وفق وصف أدونيس في كتابه المثير للجدل “الثابت والمتحول”، فسيكون علينا أن نواجه الجدار الثالث المتمثل في ما توارثناه من عادات وتقاليد اجتماعية بالية، مثل تقدير مكانة الشخص بجذوره العائلية وليس بما حقق من إنجاز، واعتبار صاحب المنصب الرسمي، حتى لو كان لصًا ومنافقًا، أهم مكانة وأرفع وضعًا ممن لم يحظ بالمناصب حتى لو كان عالمًا فذًا أو مبدعًا موهوبًا، أو حتى محض مواطن بسيط لكن شريفًا ونظيف اليد ومعطاء.
لا يتسع المقام هنا لأحصي عشرات العادات التي يجب وأدها، وإن كنت أقول أن هناك من التقاليد ما يجب أن نعض عليها بالنواجذ، وكنت أعتقد في أن القديم لا يمكن أن يموت كله، كما يقول عالم الاجتماع الروسي بوريس كاجارليتسكي. وفي الوقت نفسه فهناك من العادات ما يشكل عقبة كبيرة أمام بلوغ سقف كافٍ من الحرية، حتى تخف حمولة الزنازين التي نحملها فوق ظهورنا.
فإذا تخطينا الجدار الثالث هدمًا أو عبورًا كان علينا أن نواجه الجدار الأكثر ارتفاعًا والأكبر سمكًا، وهو ما في أنفسنا من قيود، تقفز رقيبًا ذاتيًا لحظة الكتابة، وتلعثمًا وقت المجاهرة بالحق والصدق، وقعودًا إذا دعا الداعي إلى يوم الحرية الأكبر، ولا مبالاة في مواجهة ظاهرة “الفرز العكسي” في مؤسساتنا التي تثيب ضعاف الإمكانيات وتحط من قدر المتمكنين، لا لشيء سوى لأنهم معتدون بأنفسهم، غيورون على المصلحة العامة. كما يمتشق هذا الجدار الداخلي حين نضعف أمام ملذات الدنيا، فيتحول الإنسان لدينا إلى سلعة، والسلعة إلى قيمة عظمى، وننسى أن الله قد خلق الأشياء لخدمتنا، ولم يخلقنا لخدمتها.
حين تسقط هذه الجدران الأربعة نكون قد وسعنا الزنازين، بالقدر الذي يجعل أعناقنا بوسعها أن ترى حواف السجن الكبير، لنرفع من سقف شعارنا فيصبح: “حريتنا أن نهدم السجن ونجعل السجان يتسول الغفران”. وكلمة الحق الصادقة هي الخطوة الأولى في سبيل تحقيق هذا الشعار، بعد طول انتظار.
مقالات ذات صلة:
ماذا لو تعلمت الأغنام والأبقار القراءة والكتابة؟
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا