تهذيب النفس – كيف تتهذب النفس البشرية؟ ( الجزء الثالث ) – المستوى الظاهري والباطني
نتابع في هذا المقال الحديث عن تهذيب النفس بشكل أكثر تفصيلا طبقا للمقدمات السابقة في المقالين السابقين عن قوى النفس المدركة والمحركة، وبالاستعانة بكتابات رئيس الفلاسفة ابن سينا بتصرف[1]، حيث يكون تهذيب النفس باستعلاء العقل وتحكمه في قوى الإدراك وقوى الحركة واحدة واحدة. فيبدأ بالتحكم في قوى الإدراك؛ والتي طبقًا لإدراكاتها تتحرك القوى المحركة.
المستوى الظاهري والباطني
فيبدأ تهذيب النفس على مستوى الحس، أو المستوى الظاهري، أي بإزالة الموانع الخارجية لتكامل الإنسان، وذلك باجتناب الإدراك الحسي للأمور التي تؤدي إلى تسافل الإنسان وتؤثر سلبًا على كماله، أي تحرك شهوته وغضبه تحريكًا يقويهما على حساب عقله، من سمع وبصر وكل حس ظاهري.
وبشكل كلي عقلي يكون ذلك بالزهد في الأمور المادية، والاكتفاء منها بالحد الذي يقيم حياة الإنسان، فالزاهد هو المعرض عن متاع الدنيا وطيباتها.
وأقل ذلك هو ترك الحرام الذي يرشد له النص الديني المثبت صحته. أما الزهد الأعلى فهو التنزّه عن كل ما يشغل الإنسان عن الحق الأول سبحانه.
أما على المستوى الباطني، أو مستوى الخيال والوهم، أي إزالة الموانع الداخلية؛ فيكون التهذيب أيضًا بتحكم القوة العقلية فيهما، فتسيطر عليهما وتمنعهما من التحرك في الخيالات والأوهام الدنيئة المحركة للشهوة والغضب والمقوية لهما على العقل، وتقصرهما على الأمور الشريفة الجاذبة لأعلى. ويعين على ذلك العبادات والمواعظ والألحان والأوزان.
العبادات
فالعبادات في ظاهرها تُوجه الجسد نحو الله، أي يتحكم العقل في الجسد ويوجهه نحو الله ممتثلًا لأمره سبحانه. فإذا ما صاحب ذلك أيضًا حضور العقل والخشوع؛ يصبح العقل متحكمًا في الخيال والوهم وفي قوى النفس جميعها، مروضًا لها وملزمًا لها على التوجه نحو الله. ويزيد ذلك من سيطرة العقل وتحكمه.
وهكذا تكون العبادة والصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر حقًا، حيث تؤدي لتحكم العقل في القوى الباعثة على الفحشاء والمنكر، وتؤدي إلى تحقيق استعلاء القوة العاقلة على باقي القوى، أي الوصول للتقوى كما يشير الشرع في علل العبادات، وإلى الوصول للعدالة الحقة كما يشير العقل في علل تهذيب النفس.
وكلما زادت العبادات وزاد فيها حضور القلب والخشوع فيها تم ذلك أكثر. فيبدأ أولًا بالعبادات المفروضة ثم يزيد بالنوافل.
الأمور المنبهة والمساعدة على تهذيب النفس
ومن الأمور المنبهة أيضًا للعقل والمساعدة له في التحكم في الخيال والوهم؛ الاستماع للمواعظ الحسنة أو صناعة الخطابة، سواء المواعظ الفقهية أو الأخلاقية. فهي مفيدة للتصديق المؤدي للاقتناع بالعمل والسلوك، فهي تنبه العقل وتوقظه لكي يتحكم في قوى النفس ويقوم بالسلوك المناسب.
والخطابة والموعظة تعمل في المسائل الجزئية، وتستعمل الأمثال، وتعتمد النصوص الدينية، مما يمكنها من أن توجه الإنسان للتصرف المناسب في الأخلاق والسلوكيات بشكل جزئي وتفصيلي. ويزيد التأثير إن كان الواعظ ذكيًا وعادلًا تقيًا، واللفظ والقول والمعنى وغيرهم ملائمين وجذّابين. وتزداد قيمة الموعظة إن كانت تابعة لما ثبت بالبرهان العقلي، مثل ما ثبت عن نقص النفس المطلق، وكمال الخالق المطلق، وغيرها مما توصل إليه البرهان.
ومن الأمور المساعدة أيضًا على التحكم في الخيال والوهم؛ هي الأوزان والألحان، حيث أن الجمال فيها يجذب النفس العاقلة إلى الكلام الذي تحمله، كما أنها تحرك الخيالات والعواطف والمشاعر تجاه ما تحمله، وتتسبب في إقناع القوة الوهمية بمعانيها الجزئية.
فتكون نتيجتها -إن كانت من الأنواع الشريفة مثل الأدعية والأذكار وتجويد الصوت بالقرآن الكريم- جذب الخيال والوهم نحو الأمور القدسية الشريفة العالية، صارفةً لهما عن الدنايا، مساعدةً للعقل على التحكم فيهما. ويزداد تأثيرها كلما كان الدعاء أو الذكر ذا معنى عالٍ راقٍ، ولفظٍ ملائم، ووزنٍ جذَاب، وصوت عذب.
الإدراك العقلي والقيم
أما على مستوى الإدراك العقلي؛ فتكون الرياضة بالتفكر والحب؛ عن طريق التفكر والتأمل اللطيف المعتدل، المتوجه للحق الأول، ناظرًا إلى عالم القدس، منصرفًا عما دونه. والتفكر في كل ما يساعد على رقي النفس وتهذيبها، وعلى التخلي عن الأخلاق السيئة، والتحلي بالأخلاق الحسنة.
ويساعد على ذلك أيضًا الحب العفيف؛ أي حب أهل الفضيلة والكمال لأجل فضيلتهم وكمالهم، وهو الحب المرتبط بالمعاني القدسية الشريفة متعلقٌ بها، فيجعل نفس العاشق ذات رقة ووجد، ويعينه على التوجه للمعشوق الأول سبحانه، حيث أنه يحب من اقتربوا منه وأنعم عليهم بالكمالات الجميلة، فهو يحبهم لأجله سبحانه وفيه، لا لأنفسهم.
كما أن صحبة مثل هؤلاء تعين أيضًا، حيث أن الإنسان اجتماعي بطبعه، يحتاج للآخرين، ويؤثر فيهم ويتأثر بهم، وفي الاجتماع الفاضل يساعد الأفراد بعضهم على التكامل وعلى فعل الخير والالتزام به. كما يساعد الأكمل الأقل كمالًا، ويمّثل له قدوة، ويجذبه نحو الأعلى.
وتكون نتيجة ذلك كله استعلاء العقل على قوى النفس والبدن، واطمئنان النفس لقيادته، وتوجهها للأمور القدسية العالية، واكتسابها ملكة العدالة الحقيقية كما سبق.
وعندها يصبح الإنسان جاهزا كي يبدأ رحلة أخرى، هي رحلة أرقى وأسمى وأعظم، حيث يصبح مستعدًا لنيل الكمال الأقصى له. رحلة أهل القرب والعشق.
——-
[1]بتصرف؛ كتاب “الإشارات والتنبيهات”، لأبي علي ابن سينا، مع شرح نصير الدين الطوسي، تحقيق الدكتور سليمان دنيا، دار المعارف-القاهرة، سلسلة ذخائر العرب العدد 22، الطبعة الثالثة، القسم الرابع.
اقرأ ايضاً: