مقالات

انتصار الطيب والخشت وهزيمة أفلاطون والأمة

الطيب والخشت

لم يكن السجال الشهير بين الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر د. أحمد الطيب والدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة سجالا بين نقيضين أو متقابلين في الفكر، أو متناوئين في المذهب كما فهم الكثيرون، ولكنه كان سجالا بين متآلفين في الفكر متحدين في المذهب. ومن ثم فليس بينهما رابح وخاسر، بل كلاهما رابحان ولا غرو، فهما أبناء مذهب واحد وظروف واحدة تمر بعمر الأمة، وأحداث صُنعت على عين الواقع.

ربح الطيب والخشت كثيرا، ربحا ملايين المشاهدين والمهللين والمنافقين، وعلى الجانب الآخر قليل من الممتعضين وصرعى الهم الذي يعصف بحياة الأمة ويرديها ذليلة بين الأمم. ربحا الطيب والخشت من الدنيا كل شيء، فمحركات جوجل كلّت من البحث عنهما، وشباب الأمة التائه وقف ينظر إليهما يسمع بأذنيه ما قالا ويحاول جهده الفهم، ولكنه لم يكن على مستوى الوعي الكافي، فصنّف الطرفين على أنهما عدوان يتصارعان، ولم يخلص بنتيجة غير هذه النتيجة، ولم تتكون لديه أية قناعات اللهم إلا هزيمة طرف وانتصار آخر.

الهزيمة الكبرى

إن غياب وعي الشعوب هو الرهان الأكبر في معادلة التنمية، فهم المنوطون بأي حديث، وبأي مذهب فكري، وبأي تجديد يولد، ولأن هذا الوعي غائب إلى حد بعيد فإن الحديث عن أي تجديد بمثابة عبثية لا يرجى من ورائها إلا هلاك الرحى، ومن ثم كان التصفيق لشيخ الأزهر الطيب دليل تلك العبثية،

حيث تصور الشعوب للسجال الفكري على أنه صراع لابد فيه من رابح وخاسر كان هو الدليل الأكبر لغياب وعي الأمة، لتتعمق في قناعات المخلصين لهذا الدين أن المستهدفين بالتجديد لا يعرفون قديما ولا جديدا، وليس لديهم وعي الإنصاف أو فلسفة النقد أو رؤية الحقيقة، ومن ثم لم يمثل اللقاء أو حديث الرجلين لديهم سوى ذاك الإطار الذي أقل دلائله أنه بمثابة إفلاس الأمة وعيا وفكرا.

من هذه الزاوية ينتصر الرجلين (الطيب والخشت)، ولكن الهزيمة الكبرى تحيق بأفلاطون وبالأمة. تحيق أولا بأفلاطون لأنه صاحب الحلم الكبير “حكم الفيلسوف ” ذاك الحلم الذي كاد أن يقضى في سبيله، وذاق السوءات كلها لأجل تحقيقه وما استطاع إليه سبيلا، ليموت جسده ويبقى حلمه مرفرفا في سماء اليوتوبيا، في كلمات ليست بأقل من أحلام العدل المفقود:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

“عزيزي جلوكون.. ما لم يصبح الفلاسفة حكاما أو يتحول أولئك الذين يحكمون العالم إلى فلاسفة فلن تهدأ حدة الشرور في العالم”. حلم جميل من نفس أقل جمالا ولكنه مات ولم يره واقعا.

 خيانة أرسطو وحلم أفلاطون

وخان أرسطو حلم أستاذه فأقر سلطة الطبقة الوسطى وحكم القانون ولم يقر سلطة الحاكم الفيلسوف الذي قضى أستاذه حياته بحثا عنه، ولم يره واقعا. وشاءت الأقدار أن يأتي فيلسوفين بعد ما يربو عن الألفين وأربعمائة عام على وفاة أفلاطون صاحب ذاك الحلم الإنساني الكبير، ليعتلي كل منهما مؤسسة كبرى، وكأنهما يبتعثا أفلاطون من جديد، فما بحثت عنه وأضناك بحثه تحقق اليوم واقعا، ليضعا أفلاطون في مأزق أمام الوعي الذاتي من ناحية، وأمام ثقافة الجماهير من ناحية أخرى، وخرج أفلاطون مهزوما في الناحيتين.

فالفيلسوف الذي جاء متحدثا عن التجديد أغمض عينيه عن قضايا الأمة المصيرية الكبرى، والفيلسوف الذي يمثل الأزهر أتت صحوته متأخرة إلى حد بعيد، ليضعا الفكر الإنساني في مأزق أمام الضمير العلمي والأمانة الفكرية، وليردا على “بطلر” مذهبه في قبره، ومن ثم كانت ثقافة الجماهير ثقافة شعبوية لا ترقى أبدا لصنع الحدث بل ولا لمجرد استيعابه!

كان حلم أفلاطون قائما على أن الفيلسوف هو أقدر الناس على حل المشكلات وعلى مواجهة الكوارث بشجاعة، ولكن رسب أفلاطون باقتدار، فالفيلسوفان لم يحلا المشكلات ولم يواجها الكوارث. كان حلم أفلاطون منبعثا من ثقة مطلقة في العقل المطلق للفيسلوف الذي يترفع فوق حظوظ النفس. ولكن الفيلسوفين أثبتا خطأ أفلاطون وعمّقا جرحه.

تجديد الخطاب الديني

قام حلم أفلاطون على بصيرة الفلاسفة بأولويات الشعوب، ولكنه قُتل حيث قدر. فلقد أتى الفيلسوفان بأقل جهد يذكر في خدمة قضايا أمتهم المصيرية. تحدثا عن تجديد للخطاب الديني يفتقد أدنى آلياته؛ يفتقر لأئمة على قدر الوعي والفكر والمسئولية، وإلى مسئولين على قدر الأمانة العلمية والدينية، وإلى جماهير أذلتها الحاجة وأرغمتها اللقمة، وإلى خوارج داعش وأوليائهم الذين انسلوا من تحت عباءة الدين وباتوا يقتلون الأخضر واليابس ظنا أنهم يتقربون إلى ربهم.

مُزقت الأمة شر ممزق، ولم ينشغل الفيلسوفان بغير تجديد الخطاب الديني، دون أن يتحدثا عن آليات تحقيقه، ودون أن يحددا ضوابطه وشروطه، ودون أن ييسرا على الناس فهم القضية، فالدين ثابت، ولكن قراءته في ضوء الواقع فقط هي مناط التجديد، على أن يكيف الواقع للدين لا أن يكيف الدين للواقع، وهو ما قام به الشافعي (رحمه الله) حين عدل كثيرا من آرائه الفقهية على إثر تغيير مكان إقامته وظروف كل بلد نزل بها.

لم يكن التجديد هادفا إلى هدم الدين بل هو إقامة الدين، هو بعث فرضية الاجتهاد من مرقدها الذي طال، هو استفاقة أمة تخلفت عن الركب بملايين السنوات الضوئية، هو وضع الدين في إطاره الصحيح.

هكذا يكون التجديد قراءة الواقع في ضوء الدين وإنزال الدين على الواقع، ومن ثم يكون تصدر القضايا القومية الكبرى للأمة المهزومة والمأزومة حقيقة على رأس أولويات التجديد، فيكون الخطاب من قضايا الأمة المصيرية.

الأقليات المسلمة المعذَبة في الأرض، القدس التي تُسرق في وضح النهار، المستضعفون في الأرض الذين يموتون جوعا وبردا في مخيمات اللاجئين، هذه هي قضايا التجديد الحقيقية التي غاب عنها الرجلان، أو ربما تركاها عامدين في ضوء محاذير علمها عند ربي.

الحق أحق أن يُتبع

هكذا خسرت الأمة وهكذا رُسمت خطوات ضياعها، فلم يكن الرجلان على قدر خطورة الأحداث، لم يحملا هموم الأمة كما ينبغي أن يحملاها، لم ينصحا لها كما ينبغي أن ينصحا، لم يتحملا من أعبائها إلا أقل القليل، ليبقى هذا الدور الغائب حجيجا لهما أمام الله، مخاصما لهما يوم الفصل الأكبر )ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ( .

هذا ما ينبغي أن نلتفت إليه دون مجاملة لأحد على حساب الحق، فالحق خصم لمن علمه وكتمه )وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (، وهو ما يلقي بالأمانة والمسئولية على عاتق الرجلين، فالدنيا لا عمر لها ولا شيء عند الله يعدل كلمة الحق، ولا شيء عند الله يعدل نُصرة هذا الدين حين ضعفه ودرء الباطل حين قوته، هنا يكون المحك وهنا يكون البناء وتكون الأولوية، وأي التفاف على تلك الأولويات هو بمثابة تضييع للدين وخيانة للأمة.

رسالتي الموجزة إلى كلا الفيلسوفين أن ينظرا قضايا الأمة المصيرية وأن ينصحا للأمة، أن يوضحا ولا يكتما، أن يجددا الدين بحق من كل زواياه لا من زاوية واحدة لن تجدي فتيلا فيما تصبو إليه الأمة. رسالتي لهما أن ينصفا الدين إذ أتيحت لهما فرصة الإنصاف، أن يقدما الدين على الدنيا، فحينها ستأتي الدنيا راغمة،

أن يصنعا وعيا حقيقيا للأمة الإسلامية بقضاياها المصيرية، وإلا فالنتيجة اللازمة من كل سجال قام لن تعدو سوى خسارة أفلاطون في حلمه الجميل وخسارة الأمة في قضاياها المصيرية، وانتصار المتجادلين انتصارا ظاهريا لن يبقي له الزمن على أثر وإن عاش إلى حين.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضا:

الفلسفة والدين … كيف ولماذا!

مسار إجباري

لكي نجدهم يجب أن نكون منهم .. طريق الحق

د. محمد ممدوح علي عبد المجيد

حاصل على درجة دكتوراه الفلسفة اليونانية جامعة القاهرة ودكتوراه الفلسفة الإسلامية والتصوف – جامعة المنصورة وعضو الرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة وحاصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الفلسفة وعلم النفس لعام 2020م