ثمة تساؤلٌ ألحَّ عليَّ مداهمًا وعيي بلا هوادة، مفاده: “هل النقد الأدبي معرفة؟” والحق أن التساؤل الذي تبوَّأ وَسْمَ هذا المقال، لم ينزِع إلى بُعْده الحيوي في الذاكرة النقدية خاصةً أو الأدبية عامةً بلا سبب، وإنما جراءَ إجابة قدمها الناقد الكبير الدكتور/ صلاح فضل –رحمه الله– عن عدة تساؤلات كان قد تلقاها من عدد من نقادنا النابهين: محمد الشحات، سيد ضيف الله، خيري دومة…، إثر مناقشتهم إياه في مشروعه النقديِّ الممتد عقودًا من الزمن في رحاب الجامعة الأمريكية على ما أذكر.
لئن كان الإنصاف شريعةً كما هو معلومٌ، فإنَّ من لوازمه هنا الإشارة إلى أننا لا نبتغي تدشين سجال حول “صلاح فضل” وأطاريحه النقدية، لا من قَبيل التماهي معه والتعصب له، ولا من حافة القدح فيه والتعصب عليه، إذ إننا من هذا، ومن ذاك براءٌ.. براء، كما أنَّ المقام ليس مقام السجال وتصفية الحسابات كما قد يظن بعضٌ من القوم، وإنما مقالنا محضُ استجابة بليغة على إجابة قدمها ناقد كبير له حضوره إيجابًا وسلبًا –معًا– في ساحة النقد الأدبي العربي شاء من شاء، وأبى من أبى.
مناهج النقد الأدبي لصلاح فضل
تمديدًا لهذا الإنصاف الذي نسعى إليه ونتشبث به، فإنه يلزمنا القول بأن إجابة “فضل” التي قدمها عن بعض التساؤلات التي وُجِّهت إليه، قصدت بالمعرفة النقدية معرفة المناهج الحديثة والحداثية التي تتوالى تترى في سياق تعاقبي يتجاوز بعضه بعضًا عبر تحولات سياسية، وثقافية، ومعرفية، واقتصادية، وتكنولوجية ذات قفزات ثورية جذرية.
وظني أن صلاح فضل وهو منخرط في شأنه النقدي، كان مشغولًا حتى منتهاه، بمتابعة هذه المناهج والعمل الحثيث على نقلها إلى الفكر النقدي العربي، بوصفها أحدث صيحة أو صرعة ابتكرها العقل النقدي الأوروبي بخاصةٍ أو الغربي بعامةٍ، وكأنَّي به في ذلك، كان في خضم رهانٍ أو ما يشبه السبق الذي يروم أن يحوزه قبل غيره من نقاد جيله المغايرين والمجايلين له، وذلك بصرف النظر عن تحفظٍ قد يبدو بدهيًا على مسلكه هذا من حافة العجلة والتؤدة، أو التأليف والتلفيق، أو النسخ المباشر والهضم وإقامة الجدل الخلَّاق حول ما ينقله من ثقافة إلى أخرى ومدى تمايز وتباين الشرائط الثقافية والأدبية والحضارية لكل واحدة من تلكم الثقافات على حدة.
غير أني أحسب أيضًا –من باب النَّصفة وعدم الافتئات– أن المعرفة التي عناها صلاح فضل في سياق المناهج النقدية لا تقف عند حدود الإجراءات المبتسرة، التي يعمد كثير من أنصاف الموهوبين من النَّقَدةِ إلى نقلها بحرْفيَّةٍ وتزمتٍ مقيتين، وتطبيقها تلفيقًا على النصوص الأدبية العربية بعد لوي أعناقها، مدججين بحرابٍ من الرطانات المرعبة، والمعاظلات السخيفة التي تبين عن سوء فهم، ناهيك بقدرة الناقد المتواضعة في سبر النص، وكشف المعنى، والعروج به إلى مداراته العليا من الفتنة والجمال التي هي من أخصِّ خصائص هوية الناقد ولبِّ وظيفته، وإنَّما شاء بها –المعرفة النقدية– ما وراء هذه المناهج من أٌطروحات فلسفية، ورؤى فكرية، وسياقات ثقافية تمثِّلُ جميعها المرجعيات البانية والحاكمة لتلكم الإجراءات التي تتبدى على سطح النص النقدي حالَ الممارسة النقدية التطبيقية.
إشكالية التطبيق والوعي
لئن كان الشأن والقصد كذلك فهو حقٌّ حقيقٌ لا ننازعه فيه، ولا نختلف معه عليه، بل نقرُّه ونعاضده، وإنَّما موطن الخلاف الذي نشاء إضاءته، هو أن يُختصر النقد الأدبي العربي أو مكون الناقد الأدبي في كونه محض معرفة بالمناهج النقدية الحديثة والحداثية، رغم ما وراءها من تراكم معرفي، وفلسفي، وثقافي إلخ.
بعبارةٍ أخرى: هل تكفي معرفة المناهج النقدية الحديثة والحداثية –مهما كان إتقانها– لصناعة ناقدٍ أدبي؟ وبه نتساءل بقوةٍ: أليس لدينا عدد غير قليل ممن يحدثوننا عن المناهج المستوردة بحذافيرها على امتداد العالم العربي دون أن تصنع منهم نقادًا؟
إننا نراهم رأي العين محض مُدرّسي نقدٍ يرددون على مسامع طلابهم في محاريب الجامعات، أقوالًا ورؤًى لهذا أو لذاك من دون إحسانٍ أو إتقانِ ممارسة نقدية حقيقية على نص أدبي واحد، بل إنك تكاد تعجب العَجب كلَّه حين تدرك بعين بصيرتك، أنهم يفهمون القشور دون اللباب، ولا يملكون مهارة الغوص والسبر أو الصبر على المغامرة مع المعنى، والتلطف له، أو التودد إليه لإنزاله من عليائه ودلاله إلى القراء في بهاء وفتنة.
من هنا ينشب الخلاف مع إجابة صلاح فضل عن ماهية مكون الناقد الأدبي، جازمين أن المعرفة التي صرَّح بها، وقصدها بغورها الفلسفي والفكري والثقافي، لا تنهض وحدها بالنقد، ولا تقيم منفردةً أود ناقدٍ حقيقيٍّ، وذلك لعدة حيثيات لعلَّ أهمها ما يأتي:
أولًا: المعرفة أداة للسلوك
إنَّ المعرفة في مدلولها تتحدد في تصوراتنا الذهنية عن الأشياء، ومدى إدراكنا السليم لها، وقدرتنا على تمثل حقيقتها، وأنها في تصورها الفلسفي تتأطر في تلك الثمرة التي تنجم عن حال تقابلٍ بين ذاتٍ مُدْرِكةٍ وموضوعٍ مُدْرَكٍ، وأنه بإمكاننا منح هذا الوعي بُعْدًا براجماتيًا نتمثل من خلاله المعرفة على أنها طريقة أو أداة للسلوك في مناحٍ عديدة من الحياة.
ثانيًا: ضرورة الجمع بين مناهج الحداثة والتراث العربي
يقيني أن المعرفة التي تدخل في تكوين الناقد وتأهيله لممارسة وظيفته تجاه النص، أوسع بكثير من محض المعرفة المنهجية المقصورة على المناهج المعاصرة بتفريعاتها المختلفة، إنها المعرفة الأدبية في أصلها العام، أي معرفة المؤسسة الأدبية وشرائط أنواعها المختلفة بوصف كل نوع منها له هويته المائزة له من أغياره، وبوصفها مؤسسة لا تتفاعل في خلاء لكنها تتفاعل في فضاء موسسة اجتماعية أوسع بكل ما تحمله من مضمرات التاريخ، والسياسة، والاقتصاد، والثقافة، ومعالم الحضارة عبر تراكماتها المختلفة، بل هي معرفة تُلم من كلِّ فنٍّ بطرفٍ مستوعبةً في ذلك كلِّه القديم بخباياه التراثية، والحديث بتحدياته الفكرية، والأيديولوجية، والحضارية في بُعْدها التثويري النزق، إضافةً إلى قدرةٍ فذّةٍ على اكتناه الواقع المعيش، والتملي الرصين في قضاياه، ومَلَكَة اتخاذ موقف حصيفٍ منها.
ثالثًا: موهبة الناقد الأدبي
إن الأهم من شأن المعرفة هو العارف ذاته، أي الناقد وفرادة تكوينه موهبةً ودراسةً. هذا لَعَمْري هو مربط الفرس الدقيق في الشأن برمته، ذلك أننا نبتغي من ورائه تأكيدنا على أن النقد الأدبي في صميمه، ذوقٌ وفنٌ وخبرةٌ جمالية قبل كلِّ شيءٍ. ولعلي بك الآن تقول في سريرة نفسك: إن الذوق، أو الفن، أو الخبرة الجمالية ليس لواحد منها أن تنفصل عراه عن المعرفة، بل هو يتشكل ويُصقل بها، أو إن شئتَ قلتَ: إن الذوق الفنان هو ترجمة عملية للمعرفة المصقولة، وللخبرة الممحصة طويلًا في دروب الأدب.
هذا مما لا نساجلك فيه، ولا نرده عليك، بل هو عندنا عين الصواب، وتمام الأمر في صميمه، لكنَّ قصدنا من الأمر غير ذلك، أي إننا نعزم عليك أن تتوخى رهافة الإدراك لمائزٍ دقيقٍ بين المعرفة المحض وبين المعرفة حال مصادفتها موهبةً حقيقيةً تُحسن تمثلها، وتتقن هضمها، وتتمرس كثيرًا في استثمارها بوصفها –بالنسبة إليها– محض معطيات محايدة لا فائدة منها ما لم تجد من يُفَعِّلها إلى أقصاها، داخلًا معها في سياقٍ جدليٍّ خلَّاق يحتِّم التجاوز، ويضمن الإضافة، ويغري بالمراهنة والمغامرة في فرض الفروض، ويفتتن بمراودة المعنى، ويثق بحدوسه الاستبصارية، ويتكئ على بصيرته الباصرة في وِقْدةٍ واستشرافٍ آسرين.
رابعًا: غاية النقد الأدبي
إنَّ النقد الأدبي كما نفهم، ليس محض مرآة تتراءى على صفحتها انعكاسات المقولات النقدية الغربية في هويتها المنهجية فقط، وإنما هو في جوهره الوظيفي، وسيطٌ ألمعيٌّ ينقل رؤى الأدباء ويحللها، ويدلل على حقائقها ببراهين جمالية أدبية وغيرها من أدوات الاستدلال التي تتغيا الإقناع والإمتاع معًا. من هنا ندرك –عميقًا– أن الممارسة النقدية الحق هي بناء موقفٍ على موقف الأديب، وتقديم قراءة أو تأويل نقدي وجودي على قراءة الأديب وتأويله لظواهر الوجود، وقضايا الواقع، لذلك يتزيا النقد بثياب جدلية تتجاوز الأطاريح وصفًا، وتحليلًا وتفسيرًا إلى تقييمها، واتخاذ موقف منها، وبذلك نعي أن غائية الأدب إبداعًا ونقدًا، ليس محض النزهة اللغوية، أو الإمتاع الجمالي العابر، وإنما غورها بعيدٌ.. بعيدٌ، ذلك الذي نتمثله –كما تمثله طودوروف من قبل– في إتاحة الفرصة لإمكان كل “واحدٍ أن يستجيب لقدره في الوجود إنسانًا” وأن العملية الأدبية برمتها هي “إحدى السبل الأكيدة التي تقود إلى اكتمال كلِّ إنسانٍ”.
نظرة عامة في النقد
إنَّ النقد في شأنه هذا، وإن ادعى الحيادية والموضوعية، فهو ذاتي في صميمه، بل ينبغي أن يكون ذاتيًا، لأنه لا يشتغل في فضاء العلوم الطبيعية الجامدة والخرساء، وإنما يعتمل في فضاءات الأدب بمشاعرها الفوارة، وعواطفها الجياشة، ومجازاتها ذات السحر والخلابة، لذا لا مجال هنا لحرفية الحقيقة المزعومة، ولا مكان للحيادية الصرف كما يدعيها المفتونون بتقليد علوم الطبيعة، إذ ذلك وهم واهٍ، ودعوى لا سبيل لإثباتها، وهو ما يدعم القول بنسبية المعنى، وبتمزيق حقيقة النص وبعثرتها في منزلقاته، وضلالها في الشعاب، والدروب، والحنايا.
دعوة إلى تأسيس رؤية نقدية عربية معاصرة
إننا إذ نشاء ختم هذا المقال الوجيز في شأن النقد وعلاقته بالمعرفة، نقر لصلاح فضل بفضله، ونفر ممن سبقه، ومن مجايليه، بفتح مدارات الرؤية النقدية العربية المعاصرة على سيرورة المنهجية النقدية في فلكها الغربي والإنساني، فهذا قسطٌ من الضرورات اللازمة لكل ناقدٍ أخلص لحقيقة النقد، وشأن لا عتبى لمن قصَّر فيه، أو غفل عنه، لأنه –وقتئذ– سيكون كمن لثَّم بصيرته بالعمى، وسجن نفسه في كهفٍ لا نور فيه.
لكننا لا نقبل من فضلٍ أو غيره، أن يُوقعنا في غواية مغالطة لا حق فيها، مدارها أن النقد معرفة، وأن المعرفة هي الوعي بالمنهجية الغربية في تجليها الحداثي وما بعد الحداثي فقط، إذ ذلك ولعٌ وفتونٌ من ذاتٍ مغلوبةٍ مهزومةٍ تبحث عن هوية مائزةٍ في آخر قد يعتاص في هضمه، وتمثله، وإنزاله بحذافيره –رغم شرائطه المغايرة– على واقعنا النصي والنقدي في عالمنا العربي الممزق ثقافيًا، وواقعنا الأدبي بهويته المائزة تاريخيًا، وحضاريًا، وجماليًا في آنٍ.
إنَّ لنقدنا الأدبي العربي أن يعرف ذلك كلَّه معرفة اليقين، بل معرفة التحدي والدخول معه في حومة جدلٍ حميدٍ راغبًا في الإضافة، والمغايرة، والاختلاف، استجابةً للإرادة الواعية بمائز الهوية، وحق إثبات الذات، ورغبتها في إبراز أصالتها، وأنها تروم توظيف المعطيات كافة لمسارها المنماز من الأشباه والنظائر رغم عتيان الرياح بما لا تشتهي السفن كما قال المتنبي، وإنما تمثلٌ لقول الآخر الواثق المريد في صلابة وحزم:
تجري الرياحُ كما تجري سفينتُنا نحن الرياحُ ونحن البحرُ والسفنُ.
مقالات ذات صلة:
حاجتنا إلى النقد الأدبي الخلَّاق
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*********
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا