مقالات

رؤى في أوجه فقدان المعنى

تتكون الفكرة في الذهن نتيجة سياقات وبنى كثيرة، ثم يقوم العقل بتعقلها وربطها مع غيرها من الأفكار الأخرى، فيكون مصيرها في أمرين لا ثالث لهما، إما أن تظل كامنة داخل الذهن أو تخرج إلى حيز الوجود، وفي الحالة الثانية، إما أن تخرج إلى حيز الوجود الخارجي في صورة مكتوبة أو في صورة مقروءة أو في صورة رمزية ببعض الإشارات والإيحاءات.

من الجدير بالذكر أن هذه الأفكار في صورتها الكامنة داخل الذهن قبل خروجها إلى حيز الوجود تحمل معاني ودلالات معينة يهدف إليها الإنسان، وفي عملية خروج هذه الأفكار إلى حيز الوجود الخارجي فإنها تفقد بعضًا من معانيها ودلالاتها، بفعل عدم استخدام الكلمات والألفاظ الدقيقة التي تدل دلالة كاملة ومكتملة لهذه المعاني في حالتي إخراجها في الصورتين المنطوقة والمكتوبة، هذ فضلًا عن فقدان مقدار أكثر من معانيها ودلالاتها عند إخراجها في صورة رمزية إشارية.

ما يهمنا في هذا السياق وفي هذا المقام “إخراج الأفكار في الصورة المكتوبة”، وبخاصة ممارسة الكتابة والتأليف بمختلف أشكاله، وهذه الحالة التي تفقد فيها الأفكار المعاني والدلالات الحقيقية التي كانت كامنة في الذهن، وهو ما يمثل “الفقدان الأول للمعنى”.

إذا ما ترجمت هذه الأفكار المكتوبة في صورة مؤلفات (كتب أو أبحاث أو مقالات) من لغة إلى أخرى –التي سبق وفُقِد جزء منها– سيُفقَد جزء آخر من معانيها في عملية الترجمة، وهو ما يمثل “الفقدان الثاني للمعنى”، لأن الترجمة في حقيقة الأمر ضرب من ضروب التأويل، وأن المترجم في حقيقة الأمر يعتبر مشارِكًا بمعنى أو بآخر في عملية التأليف، إن جاز التعبير.

بطبيعة الحال كل نص مكتوب له قراء يقرؤونه، وكل قارئ يفهمه فهمًا تحدده عوامل عديدة، مثل: السياقات التي يعيش فيها، فضلًا عن المستوى التعليمي والثقافي والخبرة الحياتية التي تشكل تفكيره، إلى آخره من العوامل، وهنا ستنتقل المعاني والدلالات –التي سبق وفقدت جزئين منها– إلى ذهن القارئ الذي فهمها واستوعبها وفقًا للعوامل السابق ذكرها، التي بدورها تكون سببًا في فقدان جزء آخر من المعاني والدلالات التي كانت موجودة في ذهن مترجم هذه الأفكار، وهو ما يمثل “الفقدان الثالث للمعنى”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في بعض الأحيان يمكن أن يكون هذا المؤلف الذي ترجم عملًا روائيًا، ويمكن أن يكون قصة لمسلسل أو لفيلم سينمائي أو يعرض على خشبة المسرح، وبطبيعة الحال سيفقد أجزاء كثيرة من المعاني والدلالات في تجسيد هذا العمل، من حيث تدخل المخرج وأداء الممثل والعوامل المساعدة من أضواء وأصوات وأماكن وأساليب رمزية، إلخ. وهو ما يمثل “الفقدان الرابع والخامس، إلخ من المعنى”.

وهكذا دواليك، وفصل المقال في هذه الإشكالية والعبرة والموعظة التي نستهدفها تتجسد في أن كل ما يكتب أو يقرأ أو يشاهد لا يتطابق تطابقًا كاملًا ودقيقًا ومكتملًا للمعاني والدلالات التي كان يهدف إليها ذهن صاحب هذه الأفكار.

اقرأ أيضاً:

بين الصورة والكلمة

العقل ومتاهات الأفكار

الأفكار السليمة غير محتكرة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. غلاب عليو حمادة الأبنودي

مدرس اللاهوت والفلسفة في العصور الوسطى ، قسم الفلسفة كلية الآداب جامعة سوهاج