مقالات

أول صورة حقيقية للمادة المظلمة

علماء الفلك يتمكنون أخيرًا من تصوير أحد أعظم الألغاز في علم الفيزياء

منذ فترة ، ظهر خبر لم يتحدث عنه أحد تقريبًا، ولم يسمع عنه الكثيرين، وكان هذا الخبر واحدًا من أهم الاكتشافات والإنجازات التي حدثت في العقد الماضي، إن اكتشاف أهميته قد توازي أهمية الصورة الأولى للثقب الأسود التي تم تصويرها بتليسكوب أفق الحدث في سنة 2019.

ويعد هذا الاكتشاف العلمي المذهل هو أول صورة حقيقية يتم تصويرها للمادة المظلمة، والسر الغامض في علم الكونيات، الذي غاب عنا زمنًا طويلًا، ولم نستطع رؤيته، ولم نعرف أي شيءٍ عن ماهيته وطبيعته، وكنا نعتقد أنه ليس إلا مجرد نظرية لا نستطيع إثباتها أو معرفتها ورؤيتها أبدًا..

فكيف حدث هذا؟ وكيف استطعنا حاليًا أن نرى هذه المادة المظلمة؟

وهذا ما نتحدث فيه سويًا اليوم.. كوباية شايك الحلوة والنعناع ف إيدك، ويالا بينا..

كيف يتم حساب وزن المجرات؟

وفي البداية، وعشان تكون فاهم كويس الكلام التي احنا على وشك أن نتحدث عنه، لا بد أولًا أن نفهم ما هي المادة المظلمة هذه بالظبط، ولمذا سميت بهذا الاسم .. والحقيقة أن هذه القصة بدأت من زمنٍ بعيد، في بدايات القرن العشرين، عندما استطاع العالم السويسري الأمريكي فريتز زويكي أن يكتشف لغز غريب وغامض، يتعلق بكتلة بعض المجرات التي كان يحاول قياس حجمها في مكان بعيد من الفضاء.

وهذه المجرات التي كان يحاول قياسها زويكي، هي في الواقع كانت وقتئذٍ تقاس بطريقتين.. الطريقة الأولى وهي أنه يحسب مدى سطوع الضوء القادم من النجوم كلها التي بداخل المجرة..

والطريقة الثانية هي أنه يقيس سرعة حركة النجوم التي في مركز المجرة، ويقارنها بسرعة النجوم التي في أطرافها، وهذا ما فعله في الوقع، لكن المشكلة في أن هاتين الطريقتين عندما استعملهما في نفس الوقت، فأصبحت نتائجهن غريبة وغير حقيقة، ومستحيلة الحدوث.

الكتلة الحقيقية للمجرة

فالطريقة الأولى التي كانت تعتمد على قياس مدى سطوع ضوء النجوم التي في المجرة، أظهرت أن كتلة المجرة قليلة جدًا، ومستحيل أنها تكون بالحجم الكافي لتوليد قدر من الجاذبية، يسمح بحفظ توازن المجرات، وهذا يعني أنه من المأكد وجود شيءٍ خاطئ وغامض، شيء غير مرئي موجود في قلب المجرات، وهذه الأشياء هي التي ينتج عنها الكتلة الناقصة هذه.

وهذا ما أيدته بالفعل الطريقة الثانية التي كانت تقيس سرعة حركات النجوم في قلب المجرات، وبمقارنتها بسرعتهم على الأطراف.. وهذه الطريقة أظهرت نتائج أقرب إلى لواقع،

ومتناسبة فعلًا مع قدر الجاذبية المطلوب للحفاظ على شكل وهيكل المجرة.. لكن الغريب هو  أن الكتلة الحقيقية للمجرة التي ظهرت مع هذه الطريقة، كانت أكبر من الكتلة التي نستطيع أن نراها، بحوال 400 ضعف!

وهذا يعني أن المجرات التي نراها في السماء، وفي قلب الكون الواسع هذا، كتلتها الحقيقية أكبر من التي نستطيع أن نرصدها بمئات المرات.. وكل هذا الكتلة المهولة لم تظهر لنا في الأساس، ولا نعرف أي توجد في الحقيقة، وليس لدينا أدنى فكرة عنها.

سر المادة المظلمة في الكون

ولأجل هذا ظهر مصطلح المادة المظلمة لأول مرة وقتها، الذي كان بيقول: إنه توجد في قلب المجرات وما بينها، مادة غامضة وخفية موجودة، لا تتفاعل مع المادة الطبيعية التي نعرفها بأي شكل إلا من خلال الجاذبية فقط، ولهذا السبب فتلك المادة تحافظ على شكل المجرات وجاذبيتها؛ لكنها خفية تمامًا للعين البشرية، وحتى الضوء نفسه يمر من خلالها، كأنها غير موجودة!

ولسنين طويلة جدًا، ظل لغز المادة المظلمة هذا مستمرًا، وكثير من علماء حاولوا اكتشافه وحل غموضه.. وكثير من المشاريع والتجارب جربت من أجل  رصد المادة المظلمة الغامضة هذ؛ لكن بدون أي نتيجة حقيقية أو فعلية..

لا أحد كان يعرف ماهية المادة المظلمة تلك، وكيف أتت ومن أين؟ لكن هناك الكثير من النظريات على مدار السنين خرجت، وحاولت أن تجيب على هذا السؤال..

ما هي المادة المظلمة؟

المادة المظلمة في الكون

وهناك نظرية مثلًا تقول: إن هذه المادة هي عبارة عن جسيمات دون ذرية صغيرة جدًا؛ لكن طاقتها عالية، يطلقون عليها الـ WIMPs، اختصارًا لـ Weakly Interacting Massive Particles.. وهذه في النموذج القياسي للفيزياء هي عبارة عن جسيمات ذرية لا تتفاعل نهائيًا مع القوى الفيزيائية المعروفة لدينا تقريبًا، وتفاعلها الوحيد هو مع الجاذبية فقد، وهو ضعيف جدًا..

ومنها مثلًا: جسيمات النيوترينو Neutrinos، التي هي عبارة عن جسيمات ذرية متعادلة الشحنة، تكونت منذ زمنٍ بيعد جدًا، وقت الانفجار الكبير Big Bang، وما زالت حتى الآن تتكون وتنشأ من التفاعلات الذرية عالية الطاقة High Energy، التي تحدث في قلب النجوم، أو مراكز المجرات أو على حدود الثقوب السوداء مثلًا.. والجسيمات هذه موجودة ومنشرة في كل أجزاء الكون حرفيًا..

لكن المشكلة هي أن هذه المادة المظلمة بواقع الحسابات الفلكية، من المفترض أنها تكون حوالي 27% من كتلة الكون المرئي كله.. والمادة الطبيعية التي نعرفها ونراها، وتتكون منها كل الكواكب والنجوم والمجرات، هي مجرد 5% فقط، فمن الصعب جدًا والمستحيل أن تكون الـ WIMPs تلك هي المادة المظلمة.. على الأقل ليس هي وحدها.. يعني قد تكون جزء صغير جدًامن الحل، وليس الحل كله..

اقرأ أيضاً:

الكواكب الخفية

تجربة الكون المعكوس

هل الإنسان محور الكون؟

هل المادة المظلمة حقيقية؟

وهناك علماء آخرون خرجوا وقالوا لك: إن المادة المظلمة هذه في الواقع هي عبارة عن جسيمات نيوترينو مضادة، موجودة في كون آخر موازي للكون الخاص بنا، لكن معكوس.. بمعنى أن الزمن فيه يمشي بالعكس، وبيرجع للوراء، وليس للأمام مثل كوننا!!

يا راجل ده في علماء قالوا ان مفيش مادة مظلمة أساسًا، وقدموا نظريات لنشأة الكون وطريقة عمله، مش محتاجة أصلًا المادة المظلمة عشان تفسر الكتلة الخفية للمجرات..

منهم مثلًا العالم إيريك فيرليند Erik Verlinde التي في سنة 2016 قدم نظريته الخاصة التي بتقدم تصور جديد لطريقة عمل الجاذبية، وبتتخيلها على إنها وهم أو قوة وهمية وغير حقيقية، بتنشأ من التغييرات التي بتحصل في قلب نسيج الفضاء نفسه..  والنظرية دي لغت تمامًا فكرة المادة المظلمة دي..

وبالفعل قدر فريق من علماء الفلك في مرصد ليدن في هولندا انهم يأكدوا ان نظريته ممكن تكون صحيحة فعلًا، بعد ما رصدوا تأثير عدسة الجاذبية حوالين أكتر من 33 ألف مجرة بعيدة، وقالوا إن المشاهدات بتاعتهم متناسبة مع التي هو بيقوله في النظرية.. بس لسه بردو محدش قدر يأكد عليها، وهتلاقي لينك تحت في الديسكربشن ممكن تشوفه لو عايز تعرف أكتر عن نظريته الغريبة دي:

No need for dark matter?

أول صورة للمادة المظلمة

بس المشكلة في وسط كل النظريات دي إن محدش كان عارف يتأكد من الكلام ده، لإن عمر ما حد قدر يرصد المادة دي أو يشوفها في أي حتة من الكون، ولا في أي تجربة فيزيائية..

بس كل ده اتغير من فترة قريبة، لما جه بعض علماء الفلك والفضاء من جامعة ووترلو في كندا، وقدروا بعد مجهود طويل وعظيم، إنهم يجمعوا ويلتقطوا أول صورة حقيقية للمادة المظلمة دي، بيظهر من خلالها شكلها وهي بتربط ما بين المجرات، وبتشكل جسر شديد الضخامة، بيحافظ على شكل الكون المعروف كله، وبيمنعه من الإنهيار..

طب إزاي ده حصل؟!.. هحكيلك..

بص يا عم.. العلماء دول على مر سنين طويلة، كانوا بيعملوا مسح فضائي شامل للسماء، وبيدوروا فيها على ظاهرة فلكية معينة إسمها (عدسة الجاذبية الضعيفة Weak Gravitational Lensing)

طب أيه عدسة الجاذبية الضعيفة دي؟

ما هي عدسة الجاذبية؟

لو أنت متعرفش أيه أصلًا عدسة الجاذبية دي، فخليني أقولك انها عبارة عن ظاهرة كونية غريبة تنبأ بيها أينشتاين في أوائل القرن العشرين، في نظرية النسبية، لما قال إن كتلة الأجسام الضخمة الموجودة في الكون بتتسبب في انحناء وتشويه نسيج الفضاء نفسه، أو الزمكان زي ما بيسموه، وبتخلي الضوء نفسه التي ماشي فيه ينحني حوالين الأجسام دي، برغم انه المفروض الضوء يسير في خطوط مستقيمة..

الانحناءات دي بقى في الكون البعيد بتظهر حوالين الأجرام السماوية الضخمة التي زي المجرات، وبيبقى شكلها شبه العدسات، وبيبان الأجسام التي وراها أضخم بكتير بسبب انحناء الضوء التي بيخليها تبان أقرب لينا..

لكن ظاهرة عدسة الجاذبية الضعيفة دي بقى مش بتقيس انحناء الفضاء حوالين المجرات الضخمة.. لأ هي بتقيس تأثير عدسة الجاذبية الناتج من الأجسام الخفية التي مبنقدرش نشوفها ولا نرصدها بشكل مباشر.. وبنتعرف على وجودها فقط بسبب تأثيرها الجذبوي المحدود.. زي مثلًا الكواكب أو الثقوب السوداء.. أو زي المادة المظلمة..

المادة المظلمة في أبحاث علم الكون

المادة المظلمة

وهو ده بالظبط الي عملوه.. استعملوا مرصد فلكي ضخم موجود على جزيرة هاواي، وصوروا بيه أكتر من 23 ألف مجرة موجودة على بعد 4.5 مليار سنة ضوئية مننا.. وقاسوا تأثيرات عدسة الجاذبية الضعيفة فيهم كلهم عشان يطلعوا مئات الصور لكل المجرات دي.. وبعدين جمعوا الصور دي كلها مع بعضها، عشان يطلعوا صورة واحدة لمشهد عملاق ومذهل، عينك مش هتقدر تستوعبه من كتر ضخامته!

الصورة التي انت شايفها قدامك دي، هي عبارة عن جسر عملاق من المادة المظلمة، بيربط ما بين مجرتين على مسافة أكتر من 50 مليون سنة ضوئية من بعض.. المجرات هي النقط البيضا التي باينة قدامك دي،

والضل الأحمر التي ما بينهم ده هو الجسر.. وده جزء صغير بس من وسط شبكة ضخمة بتربط ما بين مجرات الكون كله، وبتوصل ما بينهم وبين بعض، كإنه بيت عنكبوت عملاق ممتد بحجم الكون كله!

الصورة دي تعتبر الأولى من نوعها تقريبًا، وأول مرة في التاريخ حد يقدر يرصد تأثير شيء زي ده، وبالفعل بدأ علماء الفلك يدرسوها حاليًا وبيحاولوا انهم يستعملوا تليسكوبات تانية في عمل مسح لمناطق مختلفة من السماء عشان يقدروا يكرروها ويشوفوا هي صحيحة وحقيقية ولا لأ.. ولو تم تأكيدها، فده هيكون معناه ان الكون التي احنا عايشين فيه ده، هو أكبر وأغرب بكتير من كل التصورات التي كنا نتخيلها..

الإبداع في خلق الكون

كون مفيهوش حقيقة واحدة مطلقة.. ومفيش فيه نظرية بعينها تقدر تفسره أو تتخيل ماهيته الحقيقية.. بل هي نظريات كتير بتتضارب مع نظريات تانية، ومفيش واحدة فيهم بتنفي الثانية بشكل كامل..

يعني لو جيت وفكرت في الكون بكل نظرية منهم لوحدها، هتلاقيها ينفع تتطبق فعلًا وبتطلع حسابات ومعادلات مظبوطة.. وكل واحدة فيهم بتديلك تصور مختلف تمامًا عن الثانية، يخليك تحس انك يا إما مجنون، يا إما عايش في كون أغرب من خيالك نفسه..

وعشان كده، دايمًا النظرة التي بنشوف بيها الكون بتختلف، ومفيش حد من العلماء دول عمره قدر ولا هيقدر يوصل لفكرة كاملة ونهائية عن طبيعة الكون الحقيقية.. وده عشان إحنا مجرد بشر ضعفاء وعقولنا دايمًا هتفضل قاصرة عن استيعاب شيء أسطوري زي ده، عشان احنا مش آلهة.. وعمرنا ما هنكون آلهة أبدًا..

مصادر

https://earthsky.org/space/waterloo-image-dark-matter-cosmic-web-2017/

https://www.popularmechanics.com/space/deep-space/a26046/first-composite-image-of-dark-matter/

https://uwaterloo.ca/news/first-image-dark-matter-web-connects-galaxies

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*********

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. محمود علام

كاتب روائي وباحث، وسيناريست