يرى العقاد أن الإنسان ترقى في العقائد كما ترقى في العلوم والصناعات فكانت عقائده الأولى مساوية لحياته الأولى
ولكن ينبغي أن تكون محاولات الإنسان في سبيل الدين أشق وأطول من محاولاته في سبيل العلوم والصناعات لأن حقيقة الكون الكبرى أشق مطلبًا وأطول طريقًا من حقيقة هذه الأشياء المتفرقة التي يعالجها العلم تارة والصناعة تارة أخرى
فالرجوع إلى الأديان في عصور الجاهلية الأولى لا يدل على بطلان التدين وعلى أنها تبحث عن محال وكل ما يدل عليه أن الحقيقة أكبر من أن تتجلى للناس كاملة في عصر واحد.[1]
يعرف علماء المقابلة بين الأديان ثلاثة أطوار عامة مرت بها الأمم البدائية في اعتقادها بالآلهة والأرباب وهي دور التعدد ودور التمييز والترجيح ودور الوحدانية
ففي دور التعدد كانت القبائل الأولى تتخذ لها أربابًا تعد بالعشرات وقد تتجاوز إلى المئات وفي الدور الثاني تبقى الأرباب على كثرتها ويأخذ رب منها في البروز والرجحان إما لأنه رب القبيلة الكبرى التي تدين لها القبائل بالزعامة وإما لأنه يحقق لعباده جميعًا مطلبًا أعظم وألزم من المطالب التي تحققها الأرباب المختلفة
وفي الدور الثالث توحد الأمة فتجتمع إلى عبادة واحدة تؤلف بينها مع تعدد الأرباب في كل إقليم من الأقاليم المتفرقة ويحدث في هذا الدور أن تفرض الأمة عبادتها على غيرها كما تفرض سيادة تاجها وصاحب عرشها.[2]
تأتي جميع هذه الأطوار توفيقًا بين النقائض والضرورات وإثباتًا لوجود الله عن طريق الثبوت الذي لا شك فيه وهو ثبوت الكون والحس والعقل والإيمان.
ولم تكن أرباب الأمم الماضية في جميع أطوارها نوعًا واحدًا أو مثلاً لفكرة واحدة ولكنها أنواع شتى يمكن أن نجمعها في التالي:
أرباب الطبيعة، أرباب الإنسانية، أرباب الأسرة وهم الأسلاف الغابرون، أرباب المعاني كرب العشق والحرب والعدل، أرباب النسل والخصب، وآلهة الحق والآلهة العليا وهي آلهة الخلق التي تدين عبادها بشرائع الخير وتحاسبهم عليها وتجمع المثل العليا للمحاسن والأخلاق وتضمن السعادة الأبدية للأرواح في عالم البقاء
وهذه الطبقة هي أرقى ما بلغته الإنسانية في أطوارها المتوالية واستعدت بعده للإيمان بإله واحد لجميع الأكوان والمخلوقات بغير استثناء أمة من الناس.[3]
ويرى العقاد أن مسألة وجود الله مسألة وعي قبل كل شيء فالإنسان له وعي يقيني بوجوده الخاص وحقيقته الذاتية ولا يخلو من وعي يقيني بالوجود الأعظم والحقيقة الكونية لأنه متصل بهذا الوجود بل قائم عليه.[4]
ويرى كذلك أن العلوم الطبيعية ليس من شأنها أن تخول أصحابها حق القول الفصل في المباحث الإلهية والمسائل الأبدية لأنها من جهة مقصورة على ما يقبل المشاهدة والتجربة والتسجيل ومن جهة أخرى مقصورة على نوع واحد من الموجودات وهي بعد هذا أو ذاك تتناول عوارض الموجودات ولا تتناول جوهر الوجود.[5]
ويقول العقاد في الصلة بين العقل والإيمان أن الكائن الذي يستحق الإيمان به هو الكائن الذي يتصف بالكمال المطلق في جميع الصفات وغير معقول أن يكون سبب الإيمان هو السبب المبطل للإيمان(لأن العقل المحدود لا يحيط بالكمال المطلق) وغير معقول أن يستحيل الإيمان مع وجود الإله الذي يتصف بأكمل الصفات فالمخرج الوحيد من هذا التناقض أن الصلة بين الخالق وخلقه لا تتوقف على العقل وحده وأي عجب في ذاك؟
إن الإنسان كله لفي الوجود وليس العقل وحده هو قوام الوجود
وليس معنى ذلك أن العقل الإنساني لا عمل له في مسألة الإيمان فإن له عمل كبير وليس بالعمل الوحيد
وفرق بين أن يعرف العقل حدوده وبين أن يبطل عمله فإن العقل يستطيع التفريق بين عقيدة الشرك وعقيدة التوحيد ويستطيع التفريق بين أدلة الإيمان وأدلة التعطيل ويستطيع التفريق بين ضمير مؤمن وضمير عطل من الإيمان ويستطيع أن يبلغ حدوده ثم لا ينكر ما ورائها لأنه وراء تلك الحدود.[6]
وعن معضلة الخير والشر يقول أن الكمال المطلق صفة الخالق وليس بصفة المخلوقات وكل مخلوق محدود فلابد فيه من نقص يحس على صورة من الصور صورة قبح أو صورة شر أو صورة عذاب
ويرى أن الآلام وسيلة الارتقاء بتنازع الأحياء وأنها وسيلة التهذيب والازدياد في نمو فضائل الإنسان
ولو سألنا رجلاً ناضجًا أن يسقط من حياته آثار آلامه وأثار مسراته لتردد كثيرًا بين الآلام والمسرات ولعله في النهاية يسقط آثار المسرات.[7]
ويرى أن الإيمان ظاهرة طبيعية في هذه الحياة لأن الإنسان غير المؤمن إنسان غير طبيعي فيما نحس من حيرته واضطرابه ويأسه وانعزاله عن الكون الذي يعيش فيه فهو الشذوذ وليس هو القاعدة في الحياة الإنسانية وفي الظواهر الطبيعية ومن أعجب العجب أن يقال أن الإنسان خلق في هذا الكون ليستقر على إيمان من الوهم المحض أو يسلب القرار.
ويرى أن الحس والعقل والوعي والبديهة جميعًا تستقيم على سواء الخلق حين تستقيم على الإيمان بالذات الإلهية
وأن هذ الإيمان الرشيد هو خير تفسير لسر الخليقة بعقله المؤمن ويدين به الفكر ويتطلبه الطبع السليم.[8] [1] الله لعباس محمود العقاد ص6
[2] المرجع السابق ص13
[3] المرجع السابق ص14
[4] المرجع السابق ص139
[5] المرجع السابق ص178
[6] المرجع السابق ص187و188
[7] المرجع السابق ص188
[8] المرجع السابق ص190
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.