مقالات

اللعب على الطريقة الأمريكية! – الأيادي الخفية واللعبة الدنيئة

الإمبريالية الأمريكية

“دعمت الولايات المتحدة الأمريكية الأنظمة الفاشية في أمريكا الوسطى والجنوبية في أثناء وبعد الحرب الباردة دفاعا عن  مصالحها الاقتصادية والسياسية. ففي دولة قزمية مثل جواتيمالا خططت السي آي إيه لانقلاب يطيح بالحكومة التي وصلت للحكم في انتخابات ديمقراطية في عام 1954، وساندت في المقابل حكومات يمينية في مواجهة مجموعات صغيرة من الثوار اليساريين على مدى أربعة عقود. وكانت النتيجة سقوط 200 ألف قتيل.

أما في شيلي، فقد دعمت السي آي إيه انقلابا جاء بالجنرال أوجستو بينوتشيه Augusto Pinochet إلى السلطة بين عامي 1973 و1990.

وفي بيرو تحاول حكومة ديمقراطية هشة على مدى عقد من الزمان إفشال مخطط السي آي إيه الساعي لإعادة الرئيس المخلوع والمطرود من البلاد ألبرتو ك. فوخيموري Alberto K. Fujimori ورئيس مخابراته سيء السمعة فلاديميرو مونتيسينوس Vladimoro L. Montesinos.

اضطرت الولايات المتحدة لغزو بنما في عام 1989 لتطيح بتاجر المخدرات مانويل نورويجا الذي ظل حوالي عشرين عاما مخبرا وعميلا مهما للسي آي إيه.

وفي الثمانينات كان الصراع في نيكاراجوا بالغ الأهمية لاستغلال المعارضة السلمية ضد اليسار، بما في ذلك تهريب السلاح إلى نيكاراجوا عبر إيران وهو ما أدى إلى اتهامات طالت كبار المسئولين في إدارة ريجان.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كان السيد أوتو ريتش Otto J. Reich من أولئك الذين طالهم الاتهام، وهو عسكري متقاعد وله خبرة بصراعات كثيرة في أمريكا اللاتينية، لكن لم تثبت الاتهامات على السيد ريتش وأصبح فيما بعد سفيرا للولايات المتحدة في فنزويلا، ويعمل الآن مساعدا لوزير الخارجية لعلاقات دول الأمريكيتين، وقد عين بقرار رئاسي. ولم تكن الإطاحة بشافيز سوى واحدة من بنات أفكاره”

“تيم وينر”

ربما بدا لك ذلك جزءا من فيلم إثارة وتشويق وأكشن، أو جزءا من إحدى تلك الروايات التي تجيد حبك المؤامرات والخطط التي يتم صناعتها في الظلام، لكنه في الحقيقة ليس كذلك بل هو جزء من مقال لصحفي أمريكي في الجريدة الأمريكية “نيويورك تايمز” وفي رأيه -“تيم وينر” الصحفي صاحب المقال- فإن تلك السياسات التي اتبعتها أمريكا تجاه دول أمركيا اللاتينية المختلفة

ومنها كانت فنزويلا سببها كان عدم اتفاق سياسات قياداتها مع المصالح الأمريكية كما أوضح، وأضاف أيضا أنه بالإطاحة بشافيز يمكن للولايات المتحدة أن تطمئن إلى استمرار تدفق النفط الفنزويلي إليها وليس إلى المعارضين لسياستها من أمثال فيديل كاسترو!

حسنا، ربما علينا كشف بعض الغموض عن تلك السياسات التي انتهجها هؤلاء القادة فلم ترض عنهم الولايات المتحدة.

“جون بيركينز”

نأخذ بعض الشهادات من خبير اقتصادي أمريكي هو “جون بيركينز” الذي عمل لسنوات كقرصان اقتصادي، والقراصنة الاقتصاديون كما يعرفهم؛ مجموعة خبراء اقتصاديين مسئوليتهم إغراق بعض الدول في الديون الضخمة، يتم الأمر بأن يتم تحديد بلد معين يتمتع بتوفر واحد من الموارد المهمة لنقل النفط مثلا فيذهبون إليهم محملين بقروض من البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي أو غيره من المنظمات الحليفة وهي بالطبع قروض ضخمة جدا لن يتمكن البلد الفقير من تحملها أو تحمل فوائدها، وهذا هو بالضبط المطلوب!

ألا يستطيعوا السداد فيذهبون ثانية بالعروض أو لنقل المساومات كبيع نفطهم بأسعار رخيصة لشركات معينة أو يصوتوا معهم في الأمم المتحدة أو يسمحوا ببناء قاعدة عسكرية للولايات المتحدة على أرضهم أو غيرها من المساومات التي بشكل أساسي تضمن بيع مواردهم للشركات الأمريكية، والقضاء على استقلالية القرار السياسي والنظام الاقتصادي، ومن يعارض تلك الطريقة يواجه تدبير محاولة للانقلاب عليه أو الإطاحة به أو ربما اغتياله أو حتى غزو بلاده!

حدث ذلك في جواتيمالا 1954حينما جاء” آربينز ” بالانتخابات وكانت موارد البلد في يد الشركات الكبرى كشركة الفاكهة المتحدة وكان شعاره إعادة الأرض للشعب وبالفعل بدأ في تطبيق سياسات تجعل شعبه المستفيد فعلا من موارد البلد لكن ذلك لم يعجب الولايات المتحدة بالطبع وتمت الإطاحة به! وبعد ذلك عاد الوضع للسابق بالتأكيد وعادت الشركات تعبث بموارد البلاد.

وعن غزو بنما عام 1989 يقول جون بيركيز أن نورويجا رغم تورطه في تجارة المخدرات إلا أن السبب الذي دفع الولايات المتحدة للغزو هو رفضه التنازل عن قناة بنما ورفضه استمرار وجود مركز عسكري أمريكي لتدريب ضباط الجيوش على أرض بنما وهو بالطبع ما لم ترض عنه أمريكا!

أمريكا والرغبة المستمرة في السيطرة

يمكننا الاستمرار في نقل الشهادات حول دوافع الولايات المتحدة وأجهزتها المخابراتية الحقيقية في تحطيم إرادات الشعوب والإطاحة برؤسائها بشتى الطرق وإغراق البلدان في الديون وفوائدها، لكن منعا للإطالة فإن السبب الحقيقي -على الأقل- ما يرويه جون بيركنز حول دول أمريكا اللاتينية التي ذكرها “تيم وينر” في مقاله- هو رفض تلك الشعوب لخيار التبعية والاستجابة للهيمنة الأمريكية وسيطرة الشركات الكبرى، السبب الحقيقي هو فقط اختيار تلك الدول لأن تنحاز لصالح شعوبها لا أكثر!

هو أنها اختارت الاستقلال الاقتصادي والسياسي، اختارت أن تكون موارد البلد وثرواتها من حق شعوبها! هكذا ببساطة!

لكن ذلك بالطبع لم يرض أمريكا والشركات الرأسمالية الكبرى التي اعتادت الاستيلاء على موارد تلك البلاد بأبخس الأسعار واستعباد أهلها في ظروف عمل غير آدمية وتركهم في فقر ومرض وجهل!!

نموذج فنزويلا

لكننا نذكر نموذج فنزويلا شافيز لننتقل منه إلى أزمة فنزويلا الحالية.

في عام 1998 انتخب الفنزويليون هوجو شافيز بأغلبية ساحقة، وجاء الرجل بسياسات تجعل النفط الفنزويلي لأهل البلد وطالب الشركات الأجنبية العاملة في مجال النفط بمصاريف أزيد وندد بالهيمنة الأمريكية والعربدة في دول أمريكا اللاتينية وكان دائم الدعم للقضية الفلسطينية.

بالطبع أمريكا لم ترض عن ذلك؛فالنفط الفنزويلي كان من أهم مصادر النفط للولايات المتحدة، وهكذا لعبت أمريكا لعبتها فمولت اضطرابات داخلية ورَشت بعض الضباط الذين تم تدريبهم في مركز تدريب أمريكي للقيام بانقلاب على شافيز وهو ماحدث فعلا غير أنه تمكن من العودة في غضون 72 ساعة.

يمكننا الآن تأمل الأزمة الفنزويلية الحالية، شعب انتخب رئيسا

يسير على نهج شافيز في رفض الهيمنة الأمريكية وتمكينها من ثروات بلاده الكثيرة، يعاني من اضطراب داخلي ومحاولة انقلاب ويأتي آخر ليعلن نفسه رئيسا وبعدها بقليل يصدر ترامب بيانا يؤيد فيه الرئيس الجديد والانقلاب ويلوح بإمكانية تدخل عسكري!!

ويمكنك الاطلاع على التحقيق الذي قام به الصحفيان الاستقصائيان ماكس بلومنتال ودان كوهين على موقع”the gray zone” الذي يوضح كيف أن “خوان غوايدو” الذي أعلن نفسه رئيسا هو ورفاقه صناعة أمريكية كجزء من خطة إعادة السيطرة على فنزويلا

اللعبة نفسها بالقواعد نفسها، شعب وقيادة  ترفض الخضوع والاستسلام وتنحاز للفقراء والمستضفين ولأهل البلد وترفض التدخل الخارجي في شئونها فتعاقب بنفس الطريقة في كل مرة!!

الطريق الحقيقي لبناء أي حضارة

ربما ننتبه قليلا إلى أن نظرة الغربي المادي الرأسمالي نحو الشرق لم تتغير كثيرا منذ عهود الاستعمار العسكري الكلاسيكية، فقديما كانت تُجيَّش الجيوش لغزو بلدان الشرق من أجل الاستيلاء على مواردها وتحويل البلاد لأسواق للمنتجات الغربية.

حسنا، لم يتغير الأمر كثيرا، خلاصة الأمر أن الحروب أصبحت تكلفتها أكبر كثيرا من السابق، فكانت المؤامرات وسياسات الاغتيال وإثارة الاضطرابات وشراء النخب، ودوما الطريق الأسهل والأقل كلفة هو بناء نخب من البلد المنشود مؤمن بالتفوق الغربي الرأسمالي ومروج لشعاراته ومتبني سياساته، وتغييب وعي الشعوب وإلهائها في دوائر الاستهلاكية والعيش على النمط الأمريكي!

تلك النماذج لابد أن توضح لنا أن الطريق لأي بناء حضاري ونهضة حقيقية وتقدم لن يمر بسياسات الرأسمالية ومؤسساتها ودولها، فهؤلاء لا يجلبون إلا الخراب والدمار ولا ينتفع بسياساتهم سوى قلة قليلة من أصحاب رءوس الأموال الضخمة الذين يمكنهم اللعب على الطريقة الأمريكية!

لكن الطريق الحقيقي لتحقيق أي نهضة واقعية أو بناء مجتمعي هو طريق الاستقلال الاقتصادي والسياسي والوعي بخطورة الارتماء في أحضان الرأسمالية والتنبه لمؤامراتها القذرة التي تفرم الفقير وتسحق المستضعف من أجل رفاهية ثلة قليلة!

الطريق الحقيقي يبدأ ببناء نخبة واعية عاقلة متمسكة بهويتها وثقافتها تستطيع مع تمسكها بهويتها وشخصيتها التعامل مع الوارد إليها بموضوعية فتقبل الصحيح الحق وترفض الباطل، قادرة على تفنيد الشعارات البراقة الكاذبة كأحلام الديمقراطية والحرية وغيرها! قادرة على إفشال اللعبة الأمريكية!

اقرأ أيضاً:

الصراع الحضاري وأزمة الحضارة

العدو واحد.. فمن هو ؟ وما سبب تلك العداوة ؟ ومن المستفيد من وجوده ؟

الفكر الصهيوني الظالم – فلسطين حرة وستبقى قضية حية في نفوس الأسوياء

داليا السيد

طبيبة بشرية

كاتبة حرة

باحثة في مجال التنمية العقلية والاستغراب بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

حاصلة على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية