مقالات

غموض الحدود المكانية بين الفلسفة والجغرافيا .. الجزء الأول

قد يثير عنوان هذا المقال قدرًا من الريبة في ذهن القارئ حين يلمحه للوهلة الأولى، ومبعث هذه الريبة الجمع بين مجالين يبدوان متباعدين نسبيًا –وإن كانا بارزين– من مجالات التحصيل المعرفي للإنسان: الجغرافيا والفلسفة، فالأولى علم يبحث في تضاريس الأرض: أنماطها وحدودها ومقوماتها الطبيعية، بالإضافة إلى مواردها وعلاقاتها بقاطنيها، أما الثانية فنشاطٌ عقلي يبحث –إن صحّ التعبير– في تضاريس الفكر، أعني ميادينه واستدلالاته وأحكامه وقدرته على بناء النماذج التفسيرية لكافة الظواهر.

وعلى حين يقتحم الجغرافي حلبة الطبيعة العينية للمكان، مواجهًا إياها بما أتيح له من أجهزةٍ للقياس وبرامج للمسح والتخطيط والإحصاء، نجد الفيلسوف وقد انبرى لتعقيل تلك الطبيعة وهيكلتها فكريًا في بناءاتٍ وأنساقٍ منطقية محكمة، وشتان –في نظر بعض الباحثين– بين علم عملي يثق في قدرات الحواس وسلامة ووضوح اللغة المستخدمة –طبيعية كانت أو اصطناعية– وفكرٍ مجرد يُشكك في معطيات الحواس، حتى لو كانت مدعومة بالأجهزة، ويفضح غموض وقصور اللغة!

على أن هذه الريبة سرعان ما تتراجع حين يتذكر القارئ أن الفلسفة أم العلوم جميعًا، بما في ذلك الجغرافيا، وأن ابتعاد هذه الأخيرة عن الفلسفة لا يعني أنها خلوٌ من المشكلات –الموضوعية والمنهجية واللغوية– التي لا سبيل إلى معالجتها وطرح الحلول لها إلا بتدخل الفيلسوف. وإذا كانت الفلسفة بدورها قد أهملت الجغرافيا (بين علوم أخرى) ردحًا طويلًا من الزمن، شُغلت خلاله بمشكلات الفيزياء وأزماتها التطورية الكبرى، فإنها لم تلبث أن أدركت خطأ هذا الإهمال، بل وخطورة ما قد يؤدي إليه من إشكالات تمس صميم التطور الحضاري للإنسان، فاتجهت بتحليلاتها ومعالجاتها النقدية نحو نتائج وتطبيقات تلك العلوم، وقبل ذلك مناهجها ولغاتها.

وقد تجلى هذا التوجه الفلسفي –خلال العقد الأخير من القرن العشرين– في تأسيس عدد من الجمعيات الدولية المتخصصة، تشمل برعايتها مجالات جديدة واعدة لفلسفة العلم، منها على سبيل المثال لا الحصر: الجمعية الدولية لفلسفة الكيمياء (International Society for the Philosophy of Chemistry) (ISPC)، وجمعية الفلسفة والجغرافيا (Society for Philosophy and Geography) (SPG)، إذ أصبح لكل منهما مؤتمراتهما ومنشوراتهما الدورية الخاصة والمميزة.

بل إن ريبة الجمع بين الجغرافيا والفلسفة لتنمحي تمامًا حين ينظر المرء إلى محتوى الدراسة الجغرافية ومدى اقترابه من إحدى ركائز الفكر الفلسفي عبر تاريخه، فالجغرافيا وفقًا لأبسط وأشمل تعريفاتها علم دراسة ووصف المكان، وهو تعريفٌ يعكس المدلول اللفظي لكلمة “جغرافيا” (Geography) ذات الأصل اليوناني القديم، فالمقطع الاشتقاقي الأول لها (Geo) يعني “أرض” أو بالأحرى “سطح الأرض” أما المقطع الاشتقاقي الثاني (Graphos) فيعني “وصف”، ومن ثم يُصبح معنى الكلمة “وصف الأرض”، على أن نفهم “الأرض” هنا كونها وحدة مكانية شاملة تحوي خمسة عناصر أساسية: الغلاف القشري (Lithosphere)، والغلاف المائي (Hydrosphere)، والغلاف الهوائي (Atmosphere)، والغلاف الحيوي (Biosphere)، والغلاف الثقافي (Cultural-sphere). وهذه العناصر جميعًا تتبادل التأثير فيما بينها بما يُضفي على المكان الجغرافي سمة الحركة والتغير كونه موطنًا طبيعيًا للبشر يتفاعلون فيه ومعه.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

غنيٌ عن الذكر أن مفهوم المكان يمثل واحدًا من أبرز محاور البحث الفلسفي، سواء نظرنا إليه أنه وعاء أنطولوجي لكافة الموضوعات –”أرسطو” (Aristotle)، أو أنه صورة قبلية ذاتية للحدس بظواهر العالم الخارجي –”كانط” (Kant)، أو أنه مجموعات من النقاط الرياضية المجردة، أو غير ذلك. أضف إلى ما سبق ما تمثله التفاعلات المكانية للبشر من أهمية للفكر الفلسفي على اختلاف أبعاده البحثية.

من جهة أخرى، تقتضي أية محاولة مبدئية لفهم البنية الأنطولوجية والإبستمولوجية للمكان الجغرافي أن نُركز على مشكلةٍ قد لا يُلقي لها الجغرافيون بالًا (لصعوبة حلها بالطبع، ولما تنطوي عليه من أبعادٍ فلسفية محيرة)، وإن كانت تواجههم في أية لحظة يتعاملون فيها مع الواقع عينيًا، أو يسعون لتعقيله نظريًا، ألا وهي مشكلة “الحدود” (Boundaries) أو “التخوم” (Borders) الفاصلة بين الكيانات الجغرافية المختلفة، فمما لا شك فيه أن دورًا مركزيًا تؤديه الحدود في بناء المقولات الجغرافية على تباينها، وفي التمثيل النظري لها بالخرائط ونماذج الحاسب الآلي، ومن ثم فأي نسق علمي يضعه الجغرافي لا بد أن ينطوي ضمنًا على نظرية منطقية عن الأجزاء (Parts) والكليات (Wholes)، وكذلك على نظرية توبولوجية (Topological) عن الحدود. وتعني كلمة (Topology) في اللاتينية والإغريقية على الترتيب “علم دراسة الواقع”، وهي تختلف عن التوبوجرافيا (Topography) التي تعني “السمات السطحية لموقع أو إقليم”. والتوبولوجيا –أو هندسة الوضع (Geometry of Situation)– فرع حديث نسبيًا من فروع الهندسة اللا قياسية (Non-Metrical Geometry)، إذ نعني فيه فقط بالكيف دون الكمّ، فلسنا هنا بحاجة إلى مفاهيم كالخط أو المسافة أو المساواة أو التعامد وما إلى ذلك، ولكننا نقول إن شكلين أو أكثر يتعادلان إذا كانت لهما السمة التوبولوجية ذاتها، أي تلك التي تبقى رغم إجراء تشويهات متصلة للشكل (مثل التمدد والالتواء والضغط، إلخ)، بشرط ألا يؤدي ذلك إلى تمزيق الشكل. وهكذا فالخط الهندسي –توبولوجيًا– منحنى مفتوح، والدائرة منحنى مغلق، أي أنهما ليسا لهما بداية أو نهاية محددة، فإذا قلنا أن السمة التوبولوجية للتخم الفاصل بين مكانين على سطح الأرض هي تلك التي للخط (وهو ذو بُعد واحد فقط: الطول) فلن نجد له بداية أو نهاية، لأننا إذا افترضنا مثاليًا أن القطعة الخطية المعنية تناظر الفاصل المغلق من الأعداد الحقيقية [0، 1]، فإن استبعادنا لنقطتي النهاية (وهما إشكاليتان واقعيًا وغير محددتين بدقة) يؤدي بالضرورة إلى الفاصل المفتوح [ 0، 1]، وهو فاصل بلا بداية أو نهاية وفقًا لمبدأ الاتصال الرياضي.

ما الحدود بدقة؟ هل هي كيانات فعلية أم وهمية؟ أين تبدأ وأين تنتهي؟ ما البنية الأنطولوجية الحقيقية لها؟ وهل تحتويها نظرتنا المعرفية ومفرداتنا اللغوية؟ كيف يفصل الحدّ بين مكانين أو دولتين مع علمنا بأنه ذو بُعد واحد فقط هو الطول؟ وإلى أيهما ينتمي؟ لماذا تثير الحدود الجغرافية كل هذه الصراعات السياسية والاقتصادية والثقافية التي يحفل بها تاريخنا؟ ما مصدر الألغاز التي تنطوي عليها؟ هل هي مجرد إسقاطات عقلية غامضة على الواقع؟ أم هي بالأحرى انقطاعات فيزيائية غير محددة؟ وأخيرًا، هل تثبت الحدود بثبات المكان نظريًا؟ أم تخضع للتغير وفقًا لحركة التطور الجيولوجي لسطح الأرض؟

كل هذه التساؤلات تؤرق بلا شك الجغرافي حين يخلو إلى نفسه بعيدًا عن زخم الخرائط والفحوص الميدانية للوحدات المكانية المختلفة، وقد أرقت قبله الفيلسوف قديمًا وحديثًا، وكانت لها ارتباطاتها الواضحة بعلوم الفيزياء والرياضيات والجيولوجيا والبيولوجيا والسياسة وغيرها. وإذا كان مبعثها فلسفيًا، فإن نتائج تجاهلها تلقي بظلالها على العلم الجغرافي بأكمله، وعلى كافة علاقات البشر المكانية، وما من فهم واضح لها، وما من حلول مقترحة لها تشبع الشروط المنطقية لأنساقنا العلمية، إلا بلقاءٍ يجمع بين الجغرافيا والفلسفة في حوار دائم ومفتوح، لا سيما على المستوى الإبستمولوجي ومستوى التحليل اللغوي!

معنى كلمة الحدّ

نبدأ أولًا بحصر نطاق الإشارة اللغوية لمصطلح “الحدّ”، إذ يمكن أن يرد في تعبيراتنا بأكثر من معنى، ففي لغة العرب، الحدّ الحاجز بين الشيئين، وهو من كل شيء طرفه الرقيق الحاد ومنتهاه، فيُقال مثلًا: وضع حدًا للأمر، أي أنهاه. والمعنى ذاته نجده في الإنجليزية، إذ تُستخدم كلمة (Boundary) للإشارة إلى الخط الفاصل بين سطحين، أو مكانين، أو أرضين، كما تُستخدم أيضًا للدلالة على منتهى أي شيء وطرفه الأخير، كأن نقول مثلًا: حدود الزمان، وحدود الساحة، وحدود المعرفة الإنسانية. ويعني ذلك أن كلمتَّي حدّ (في العربية) و(Boundary) (في الإنجليزية) تشيران إلى نهايات الأشياء وفواصلها بصفة عامة، مادية كانت أو معنوية، ولذا تنطوي اللغة على كلمات أخرى للدلالة على الحدود النوعية المختلفة، فهناك أولًا كلمة “تخم” (Frontier & Border)، وتعني الحدّ الفاصل بين أرضين، مثل الحدّ الجغرافي بين أي دولتين، قال الفرّاء: تخوم الأرض حدودها. وثانيًا كلمة “طرف” أو “نهاية” (Limit)، وتعني أبعد نقطة تحُد شيئًا ما، مثل حدّ السطح، وحدّ الصواب، وحدّ الخطأ، ثالثًا كلمة “حافة” (Edge)، وتعني الناحية أو الجانب الحاد من شيء ما، مثل حافة الكتاب، وحافة الخنجر. أما كلمة (Term) في الإنجليزية، فمع أننا نترجمها إلى العربية بكلمة الحدّ أيضًا، إلا أننا نقصر استخدامها على المصطلح الفني أو الحدّ اللغوي.

لعل أول تعريف علمي للحدّ يرد في نسق ما، ذلك الذي وضعه “إقليدس” (Euclid) حين شيَّد أول نسق استنباطي هندسي عرفته الإنسانية، وضمنّه كتابه “العناصر” (Elements) (قرابة 300 ق.م). انطلق إقليدس في بنائه للنسق من افتراضٍ مسبق مؤداه أن المكان سطحٌ مستو درجة الانحاء به صفر، وأن المكان الهندسي صادق على المكان الفيزيائي، ثم وضع عددًا من التعريفات (23 تعريفًا) للألفاظ الأساسية المستخدمة في النسق، مثل “النقطة”، “الخط”، “الزاوية”، “الحدّ”، إلخ، أعقبها بعددٍ من القضايا الأولية بعضها “بديهيات” (Axioms)، وهي قضايا واضحة بذاتها ولا برهان عليها، مثل قوله “الكل أكبر من الجزء”، وبعضها “مصادرات” (Postulates)، وهي أقل وضوحًا، ولذا يعاند العقل في قبولها ثم يصادر عليها متسامحًا حتى تتضح له فيما بعد، مثل قوله “أي خط مستقيم متناهٍ جزء من خط مستقيم لا متناهٍ”. ومن جملة المقدمات السابقة (التعريفات والبديهيات والمصادرات) يشتق إقليدس مبرهنات أو نظريات الهندسة المستوية بأكملها. يقول إقليدس في تعريفاته: “النقطة ما ليس له أجزاء. والخط طول لا عرض له. وأطراف الخط نقاط […]. والسطح ما له طول وعرض فقط. وأطراف السطح خطوط […]. والحدّ ما يكون طرفًا لأي شيء”.

لا يختلف تعريف إقليدس للحدّ كثيرًا عن المعنى اللغوي له، لذا يزيده “أرسطو” دقة ووضوحًا فيقول: “نحن نُسمي الحدّ طرفًا لكل شيء، أي، الشيء الأول الذي لا يوجد خارجه أي جزء [من ذلك الشيء] والشيء الأول الذي يوجد داخله كل جزء [من ذلك الشيء]”. وعلى الرغم من أن أرسطو قد وضع تعريفه هذا في سياق دراسته للموضوعات المادية، وعنى به التطبيق عليها فقط، فإنه يُطبّق بالبداهة أيضًا على الحوادث (Events)، بما في ذلك حدودها الزمانية، فحياة أي كائن عضوي مثلًا محدودة بطرفين: لحظة الميلاد ولحظة الوفاة، ناهيك بالفواصل أو الحدود الزمكانية لتلك الحوادث. بل إن هذا التعريف يصلح للتطبيق كذلك على الكيانات المجردة مثل التصورات (Concepts) والمجموعات (Sets)، إذ من المفترض أن لكل منها حدودًا فاصلة تخصها، وعلى هذا يؤخذ تعريف أرسطو بداية طبيعية لأي بحث في تصور الحدّ، ومنه أيضًا تنطلق الألغاز (Puzzles) المحيرة التي تبرر الاهتمام الفلسفي المتصاعد بموضوع الحدود.

مقالات ذات صلة:

جسور التواصل بين الفلسفة والكيمياء

عن أصل الفلسفة أتحدث

شرح الفلسفة السياسية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية