الاقتصاد الجديد .. اقتصاد المستقبل
شهد العالم في الثلاثة العقود الأخيرة تطورات وتغيرات سريعة على مستوى البحث العلمي والتطور التكنولوجي والتقني، وكذا تغيرات وتحديات على المستوى البيئي، مما أدى إلى توجه العالم إلى نموذج اقتصاد جديد “اقتصاد المستقبل”، القائم على المعرفة والابتكار والرقمنة، وتشجيع الاستثمار في قطاعات الاقتصاد الجديد مثل الطاقة المتجددة والتكنولوجيا المالية المتقدمة والذكاء الاصطناعي والفضاء، ومن ثم تحقيق نمو اقتصادي مستدام قائم على العلوم والتكنولوجيا المتقدمة وهو الاقتصاد الأكثر ذكاء، ومن هنا يعتمد على القدرات والكفاءات العالية والمواهب المميزة، كما تتجه الرهانات إلى أن نمو الاقتصاد العالمي مرتبط بخلق مزيد من الفرص الاستثمارية في المجالات المختلفة المرتبطة بقطاعات الاقتصاد الجديد، التي من بينها: الاقتصاد الدائري والنمو الأخضر، التكنولوجيا، صناعة الفضاء، الطاقة المتجددة، الغذاء، الزراعة، الرعاية الصحية، النقل، إلخ. بالإضافة إلى الاستثمار في تطوير البنية الرقمية وتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي.
ما الاقتصاد الجديد.. اقتصاد المستقبل؟!
تعريف/مفهوم اقتصاد المستقبل يصف جوانب الاقتصاد أو قطاعاته التي تنتج أو تستخدم بكثافة تقنيات مبتكرة أو جديدة، وينطبق هذا المفهوم الجديد نسبيًا خصوصًا على الصناعات التي يعتمد فيها الناس أكثر على أجهزة الكمبيوتر والاتصالات والإنترنت في إنتاج السلع والخدمات وبيعها وتوزيعها.
من هنا نؤكد أن الاقتصاد الجديد يعتمد على استخدام: تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتطورات في مجال الروبوتات والذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة والتجارة الإلكترونية وتبادل البيانات والمعلومات، للسيطرة على العملية الاقتصادية بكفاءة أكبر.
أي إنه الاقتصاد الذي يقوم على ركائز مهمة من بينها “تعزيز الابتكار والإبداع والتنافسية والتطوير المستدام للأعمال والاقتصاد”، كما يعتبر الاقتصاد الجديد وسيلة لتحسين جودة الحياة وزيادة الفرص الاقتصادية للشعوب في جميع أنحاء العالم.
كما أن الجميع أدرك أن مصير الأمم مرهون بإبداع أبنائها وقدرتهم على سرعة الاستجابة لمشكلات التغيير ومتطلباته، كجوهر لكفاءة الإدارة للمعرفة وفاعليتها، التي تعد العنصر القيادي في العملية الإنتاجية، فمثلًا شركة “آبل” تقريبًا هي الشركة الأكبر من حيث القيمة السوقية في التاريخ الصناعي الحديث، وهذا خير دليل على أن الثروة المعرفية أغلى من الثروات الطبيعية وغيرها، إذ نجد أن أجهزة الهواتف الذكية على سبيل المثال تباع بآلاف الجنيهات، ومن ثم فإن القيمة الحقيقية تكون في المعرفة والتقنية التي تشغل الجهاز وليست المواد الخام.
علاقة اقتصاد المعرفة باقتصاد المستقبل
كما تجدر الإشارة إلى ما يعرف باقتصاد المعرفة، وأن هذا الاقتصاد نشأ من رحم رأس المال الفكري، الذي أصبح المولد والحاضن لغيره من الاقتصاديات الأخرى الناشئة، مثل: الاقتصاد الرقمي واقتصاد الابتكار واقتصاد الفضاء، كما يمكن تعريف “المعرفة” بأنها المرحلة النهائية من تحول البيانات إلى معلومات، التي تتحول بدورها إلى معرفة توفر بيئة معرفية ممكنة لهذا التحول، مع ضرورة وجود ترابط عضوي ما بين البيانات والمعلومات والمعرفة، فجميع دول العالم وشعوبها تتحرك وتتسابق نحو المفهوم الصحيح للاقتصاد المعرفي، الذي نراه يتجسد في المشروعات التنموية الضخمة ذات التقنيات العالية التي تتطلب الكوادر الفنية المؤهلة لإدارتها وتشغيلها، ومن هنا جاء الاهتمام العالمي بصناعة جيل المعرفة، لبناء اقتصاد مستدام ومتنوع وذي قيمة مضافة عالية، يمكنه من خلق رأس المال البشري وإنتاجه المختزن والحاضن للأصول المعرفية ذات القيمة الإبداعية الابتكارية.
كما أن مفهوم اقتصاد المعرفة يرتبط رتباطًا وثيقًا بالاقتصاد الجديد أو اقتصاد المستقبل، إذ تمثل المعرفة وتقنياتها شعار المرحلة الحالية ووسيلة الانتقال إلى اقتصاد المستقبل، وأصبح نجاح أي مؤسسة أو دولة ما تمتلكه من مقومات استثمار المعرفة، فالمعرفة هي الأساس في أي نشاط بشري، وهذا يؤكد أن الأصول الرئيسية في الاقتصاد الجديد أصبحت المعرفة المتخصصة والذكاء الاصطناعي، وكذا صار للذكاء الاصطناعي –المتجسد في برامج الكمبيوتر والتكنولوجيا عبر نطاق واسع من المنتجات– أهمية تفوق أهمية رأس المال أو المواد أو العمالة، إذ كانت الأرض والعمالة ورأس المال العوامل الثلاثة الأساسية للإنتاج في الاقتصاد التقليدي أو القديم، وقد عرّفت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية اقتصاد المعرفة بأنه “ذلك الاقتصاد الذي تعد فيه المعرفة المُحدِّدَ الرئيس للإنتاج والنمو الاقتصادي عن طريق التركيز على دور جديد للمعلومات والتقنية والتعلم في تحقيق أداء اقتصادي متميز”، إذ تؤكد نظرية النمو الحديثة أن النمو الاقتصادي ناشئ عن العوائد المتزايدة المرتبطة بالمعرفة الجديدة، وأن إمكانية إنماء الاقتصاد بزيادة المعرفة بدلًا من زيادة العمل ورأس المال يخلق فرصًا للنمو غير المحدود نسبيًا، ومن هنا تجدر الإشارة إلى أن اقتصاد المعرفة يقوم على أربعة ركائز: التعليم والتدريب، البنية التحتية للمعلومات والتكنولوجيا، نظام الابتكار، نظام الحوافز الاقتصادية والنظام المؤسسي في الدولة”.
اقتصاد المعرفة والاقتصاد الرقمي
أيضًا يعد ما يعرف باقتصاد صناعة المحتوى أو اقتصاد المبدعين نموذجًا أو صورةً من صور اقتصاد المستقبل، وفيه يكسب صناع المحتوى ورواد العمل الإلكتروني المال مقابل عرض إبداعاتهم وبيعها عبر الإنترنت، وتشمل هذه الأعمال الإبداعية مقاطع فيديو اليوتيوب والبودكاست، وإنشاء وبيع الدورات عبر الإنترنت، والتسويق عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والمدونات الإلكترونية، ويطلق على هذا الاقتصاد بأنه صناعة متنامية بمليارات الدولارات، ويعتمد عليه كثير من مشاهير العالم، وفي الغالب يعتمد نجاحه على الشهرة والانتشار في العالم الافتراضي، لذلك اتجهت الشركات العالمية والعلامات التجارية إلى إتقانه والاعتماد عليه اعتمادًا أساسيًا في كثير من أنشطتها.
من هنا يأتى التأكيد على أهمية إنتاج المعرفة وإدارتها لبناء اقتصاد قائم على المعرفة، مما يمكن الدول من التحول من دول “متلقية” إلى دول “منتجة”، وذلك عن طريق الاهتمام بالاستثمار في التكنولوجيات المتطورة والتحول الرقمي ومن ثم تبني مفاهيم الاقتصاد الرقمي، كما يرتبط مفهوم اقتصاد البيانات الجديد باقتصاد المستقبل، وهو اقتصاد يتميز بالقدرة والإمكانيات على جمع البيانات لتبادلها ومعالجتها وتحليلها باستخدام مجموعة من خوارزميات الذكاء الاصطناعي.
كانت عضلات الإنسان هي المحرك الرئيس للاقتصاد في عصور ما قبل التاريخ، قبل أن يكتشف الإنسان الطاقة الميكانيكية، تليها طاقة البخار ثم النفط، ويبدو أن محرك الاقتصاد في المرحلة المقبلة لن يكون أيًا من تلك القوى بل سيكون المعلومات والبيانات، ففي ربع القرن الماضي اجتاحت الهواتف الذكية وتكنولوجيا “واي فاي” والروبوتات، ومجموعة من الإنجازات التكنولوجية الأخرى جميع أنحاء العالم، إذ أحدثت تحولات في المجتمعات كافة، كما تُختَبر حاليًا السيارة من دون سائق على الطرق، وتستطيع الروبوتات تحليل البيانات السريرية في الوقت الحقيقي وترشد الجراحين في أثناء العمليات، كما أن القدرة والإمكانيات على جمع البيانات لتبادلها ومعالجتها وتحليلها باستخدام مجموعة من خوارزميات الذكاء الاصطناعي يتيح للشركات تعزيز مكانتها في السوق، ومواصلة النمو والتوسع، لكن ليس بالضرورة أن يكون ذلك على مستوى أعمالها التقليدية فقط، بل بإمكان البيانات أن تولد تقنيات ونماذج أعمال جديدة تمامًا لم يتصورها أحد، مثلما أدى توفر بيانات نظام المعلومات العالمي “الأقمار الاصطناعية” إلى الاعتماد على نظام تحديد المواقع العالمي في قطاع رسم الخرائط اليوم، كما أن البيانات تعد وقود الاقتصاد الجديد، ومن ثم سوف تكون خوارزميات الذكاء الاصطناعي، التي تتدرب بواسطة جمع البيانات الضخمة وتتبع “الآثار الرقمية” للبيانات، ذات طابع تحولي عالمي، كل هذا يؤكد أن هناك مولدًا ونشأةً لنظام عالمي جديد بناء على إجمالي ناتج البيانات، وسيكون هذا النظام العالمي الجديد مقياسًا اقتصاديًا لثروة الدول وقوتها في المستقبل القريب، أما على مستوى الاقتصاد فنرى أن عمليات جمع البيانات وتبادلها ومعالجتها لم تعد محض أنشطة جانبية ترتبط بإنتاج السلع والخدمات، بل أدرك الجميع التأثير المضاعف للبيانات على الاقتصاد حتى أنها أصبحت إحدى محاور نمو عديد من الاقتصادات الناشئة.
من ناحية أخرى أدى تسارع التقنيات الرقمية في العالم أخيرًا إلى حدوث تغيير جذري في مفاهيم الثورات الصناعية، وقد سميت بـالثورة الرقمية، التي تضمنت سلسلة من التغيرات في الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، حتى ظهر أخيرًا مفهوم التحول الرقمي الذي يعتبر رحلة نوعية في مجال الاتصالات والخدمات الرقمية والمنصات، مما انعكس على عمق العلاقات وقوتها بين الدول والشركات والمجتمعات، ويتعامل هذا النوع من الثورات مع الآلة باعتبارها عقل مستقل يقبل التوجيه والتدخل البشري، إذ يجمع بين العالم المادي والافتراضي والبشري، مثل الإلكترونيات الدقيقة وهندسة البرمجيات والاتصالات وتقنيات المعلومات، بالإضافة إلى نوع جديد من التقنيات مثل الطباعة ثلاثية الأبعاد وإنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة والواقع الافتراضي وغيرها، كل هذا يطلق عليه الاقتصاد الرقمي وهو مفهوم يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالاقتصاد الجديد أو اقتصاد المستقبل.
مفاهيم ومرادفات لاقتصاد المستقبل
نستخلص مما سبق أهمية المعرفة والابتكار والرقمنة في الاقتصاد الجديد أو اقتصاد المستقبل، إذ إنها تعد الركائز الأساسية التي يرتكز عليها مستقبل الاقتصاد في العالم، كما يرتبط بالاقتصاد الجديد أو اقتصاد المستقبل عديد من المرادفات والمفاهيم التي تعد في مجملها ترسيخًا لتوجه العالم نحو الاقتصاد الجديد أو اقتصاد المستقبل، من هذه المرادفات: الاقتصاد الرقمي، اقتصاد المعرفة، اقتصاد الابتكار، اقتصاد المبدعين أو صناعة المحتوى، اقتصاد الفضاء، الذكاء الاصطناعي، إلخ، كل هذه المرادفات وغيرها من مرادفات ومفاهيم أخرى ترتبط بالمعرفة التكنولوجية وتقنيات المعلومات والبيانات والرقمنة والذكاء الاصطناعي والعالم الافتراضي وغيرها– أسس ووسائل وطرق مؤدية إلى الاقتصاد الجديد.. اقتصاد المستقبل.
مقالات ذات صلة:
المرغوب وغير المرغوب من ألوان الاقتصاد
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا