أدب الأوبئة
والأدب هو تلك المرآة التي تعكس واقع الشعوب من عادات وتقاليد، وأفراح وأتراح، وهزائم وانتصارات، وقد شكلت الأوبئة على مر عصورها أحد هذه الأوجاع التي فرضت نفسها على الأدب بصفة عامة وعلى الروايتين العالمية والعربية بشكل خاص.
فوجد الروائي في هذه الأوبئة وسيلة ناجعة لعرض سلبيات مجتمعة بشكل صريح أحيانا و بصورة رمزية أحيانا أخرى.
رواية العمي
ومن أشهر هذه الروايات التي تناولت قضية الأوبئة رواية (العمى) للكاتب البرتغالي جوزيه ساراماجو، والتي عمد فيها إلى نوع غريب من الأوبئة وهو عمى من نوع خاص يرى فيه الشخص جميع الأشياء باللون الأبيض فقط، وهو يوظف هذا النوع من العمى في انتقاده ممارسات مجتمعه المذمومة من إصرار على الاستبداد واغتصاب الحقوق رغم الوباء والمرض، ويعرض الكاتب كذلك لرغبة المجتمعات الموبوءة في العودة لحياتها التي كانت عليها قبل المرض وتوقها إلى ولادة جديدة تنعم معها بحياة خالية من القهر والاستبداد.
جاء على لسان إحدى شخصيات الرواية، وهي سيدة اختار الكاتب أن تكون الوحيدة التي لا تصاب بهذا المرض: “ما أصعب أن يكون المرء مبصرا! “.
الطاعون
ومن ذلك أيضا رائعة الكاتب الفرنسي الأصل الجزائري المولد ألبير كامو (الطاعون) والتي حاز عنها جائزة نوبل للآداب، وفيها يتحدث كامو عن تفشي مرض الطاعون في مدينة وهران الجزائرية، مما يتسبب في عزل المدينة تماما وإغلاقها على أهلها منعا لانتشار المرض خارجها، فتتحول وهران من مدينة هادئة وادعة إلى سجن كبير.
وتعرض الرواية في ثناياها لذلك الصراع القائم بين رجال الدين الذين يرون في الطاعون عقابا إلهيا للبشر على ما اقترفوه من ذنوب وآثام، وبين رجال العلم الذين يحاولون اكتشاف علاج لهذا المرض.
ويرى كثير من النقاد أن طاعون كامو لم يكن طاعونا حقيقيا، ولا علاقة له بالجزائر بل هو طاعون رمزي قصد به كامو فرنسا التي اجتاحتها قوات النازية دون أية مقاومة تذكر.
الحب في الكوليرا
(الحب في زمن الكوليرا) رواية عالمية أخرى حاز صاحبها الروائي جابريل جارسيا ماركيز جائزة نوبل للآداب، وفيها يعرض الكاتب لفكرة الإصرار على الحب المتمثلة في علاقة المراهق العاشق “فلورينتينو إريثا” بمحبوبته “فيرمينا داثا” وإصراره على الفوز بها رغم زواجها من “خوفينال أوربينو”، الطبيب العائد من دراسة الطب في فرنسا والذي يعمل على معالجة داء الكوليرا في بلده.
وبعد واحد وخمسين سنة من اعترافه الأول بحبه لفرمينا يعود فلورينتينو في جنازة زوجها خوفينال وقد بلغ السبعين من العمر، ليكرر اعترافه بحبها وليظفر بها أخيرا. وتنتهي الرواية بمشهد يجمع كلا منهما على سطح سفينة رفع عليها علم الإصابة بداء الكوليرا، لتظل هكذا في معزل عن الناس، في إشارة للإصرار على الحب وصموده.
ومن أشهر ما جاء على لسان فلورنتينو أريثا في هذه الرواية: “ما يؤلمني في الموت هو ألا أموت حبا”.
موت في البندقية
ومن الروايات التي تناولت وباء الكوليرا كذلك رواية (موت في البندقية) للكاتب الألماني توماس مان، وفيها يحكي قصة كاتب ألماني يذهب في رحلة إلى مدينة البندقية، وهناك في الفندق يكتشف الفتى تادزيو الذي يظل يطارده ويسعى وراءه في شوارع البندقية، إلا أن البطل لا يلبث أن يموت في النهاية جراء إصابته بوباء الكوليرا.
دي كاميرون
(دي كاميرون) للإيطالي جيوفاني بيكاتشو، عمل أدبي آخر نشر عام ١٣٥٣م، تعكس صفحاته روح عصره. وهو عبارة عن قصص عشر يرويها سبع نسوة وثلاثة شبان لجأوا إلى الريف لمدة عشرة أيام بسبب وباء الطاعون الذي ضرب “فلورنسا”، وهي تشبه في طريقة سردها كتاب “ألف ليلة وليلة”.
يقول الأديب الإيطالي جيوفاني في مقدمة كتابه دي كاميرون: (كانت الجثث في فلورنسا تنتشر في كل مكان، تنهشها الحيوانات الضالة، إنه الطاعون الذي جعل الأباء والأمهات يفرون من أبنائهم المصابين ويتركونهم لمصيرهم).
عيون الظلام
ومن الروايات التي يرى أنها تنبأت بانتشار فيروس كورونا المستجد رواية (عيون الظلام)، وقد صنفت هذه الرواية كواحدة من أكثر الكتب مبيعا، وفيها يذكر الكاتب أن فيروسا جهز في المختبرات القريبة من مدينة ووهان الصينية، ينتشر في العالم فجأة، فيعاني كل من يصاب به من نوبات هستيرية متتالية تدفع بالمريض إلى تمزيق الأردية الواقية للأطباء الذين يأتون لأخذه للعزل، ثم يتبع ذلك موت المريض سريعا.
رواية نهاية العالم
وكذلك رواية (نهاية العالم) للروائى ستيفن كينغ عام ١٩٧٨م، والذي تنبأ فيها بأن نهاية العالم ستبدأ بشيء بسيط تافه مثل الإنفلونزا لكنها لن تكون إنفلونزا عادية، بل ستنتج عن فيروس متحور يدمر البشر حول العالم.
رواية الأيام
ولم تكن الرواية العربية بمعزل عن هذا كله، فهذا عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين يصف في رائعته (الأيام) وباء الكوليرا وكيف ضرب هذا الداء قريته فحصد فيها كثيرا من الأرواح حتى إنه أصاب أخاه الذي كان أمل أسرته في أن يصبح ذات يوم طبيبا مشهورا فقتله.
يقول طه حسين معقبا: (الحزن كالوباء يوجب العزلة).
الراحل أحمد خال توفيق
ولم تكن مؤلفات الراحل أحمد خالد توفيق من ذلك ببعيد، فقد جاء – بحكم مهنته كطبيب – على ذكر الأوبئة في كثير من مؤلفاته ككتاب (الموت الأصفر) الذي تحدث فيه عن الحمى النزفية وكتاب (الوباء) الذي عرض فيه عن وباء قاتل ينتشر في أحراش إفريقيا، وكذلك كتابه (عن الطيور نحكى) حيث يروي فيه قصة وباء فتاك لم يستطع الأطباء السيطرة عليه، فطفق يحصد الأرواح واحدة تلو الأخرى.
وفي الختام يجدر بنا أن نتساءل هل ستفرز لنا جائحة الكورونا بحصادها المر من خسائر في الأموال والأنفس والثمرات أعمالا أدبية جديدة تثري الأدب عامة وفني القصة والرواية بشكل خاص؟ هل تكون هذه الأعمال بمثابة الشراب في نصف الكوب الملآن؟ وهل سيولد من رحم هذه الجائحة جيل من الأدباء يحكي لنا أنه كان هناك ذات يوم وباء اسمه الكورونا؟