هومي بابا والقراءة النفسية بين الأنا والآخر
كان للمُنظِّر ما بعد الكولونيالي “هومي بابا” دور مهم في هذه الدراسات، إذ عُدّ من المؤثرين في هذا الخطاب لكونه سخر للمجال النقدي ما بعد الكولونيالي عددًا من المفاهيم، التي أسهمت في تفكيك الخطاب الاستعماري، وهذه المفاهيم استقاها بعد بحث مستمر في كتابات “سعيد”، وكذلك في مجالات علم النفس من دراسات “فانون وجاك لاكان” النفسية.
إن السمة البارزة في مفاهيم “بابا” ما بعد الكولونيالية هي التوظيف النفسي وعلاقتها بالمنظومة السياسية في مجابهة الخطاب الغربي، التي تناولها قبله “فانون”، فدراسات الأخير النظرية وعنايته بالعلاقة بين السياسة والنفس وقضايا التمثيل تتصادى في فكر بابا، شأنها في كثير من الجدالات الراهنة حول مسألة الهوية، وكذا رؤية “فانون” إلى الثقافة على أنها حقل أدائي، وتركيزه على الجسد الذي يقع في مركز تفكيره الخاص بالفاعلية السياسية والممارسة الثقافية.
لقد عمل بابا على تطوير دراسات فانون فيما يتعلق بالتحليل النفسي والجسدي، على وفق منظور لاكان ونظرياته النفسية وخصوصًا في مفاهيم التنكر والآخر والأنا، وغيرها من المفاهيم التي أدخلها لاكان في التحليل النفسي عبر إعادة قراءة نظريات فرويد النفسية.
لكن قبل البدء في مفردات التحليل النفسي التي تأثر بها بابا ووظفها في عمله، كانت له مواقف جلية من الخطاب الكولونيالي والثقافة الاستعمارية في الهند، الذي على أثرها أنشأ مع عدد من الباحثين الهنود ما سُمي بدراسات التابع، ووقع على عاتقهم عملية قلب مدونة تاريخ الهند الرسمي المكتوب من المؤرخين المتأثرين بالسياسات الاستعمارية البريطانية، واقترحوا إعادة كتابته في ضوء مفاهيم مغايرة متصلة بالتاريخ الشفوي المنسي، الذي استبعدته النخب الاستعمارية.
في ضوء هذه الدراسات النقدية التي اتصف بها عمل بابا، برز توجهه نحو مناقشة الفكر الغربي في حقبة محددة؛ الحقبة التنويرية التي رأى فيها أنها أسهمت في صناعة الثقافة الكولونيالية والتوسع الإمبريالي، وناقش فكر النخب المؤثرة في تلك الحقبة التاريخية التي ابتعد مفكروها عن موقفهم الإنساني، بل أسهمت نتاجاتهم في إيجاد فكر طبقي تمييزي بين الغرب والشعوب الأخرى التي أصبحت ضحية لذلك التوجه.
هنا يرى بابا أن الفكر الأوروبي الإنساني التنويري لم يكن إلا ليكشف عن مفارقة ساخرة إذا ما وضع في السياق الكولونيالي لتلك الحقبة. ولم يقتصر الأمر على التجاهل واللا مبالاة في مواقف الطبقة المثقفة الأوروبية من قضايا التوسع الاستعماري والنشاط الكولونيالي وما رافقه من أفعال لا إنسانية، بل أسهم في انتشار أنماط من المرويات الكبرى التي تزيف الواقع المحلي للبلدان المستعمرة.
للوقوف على المفاهيم التي صاغها هومي بابا في كتابه موقع الثقافة، سيتطرق الباحث إلى أهم المفاهيم التي استقاها من لاكان؛ التنكر والتمويه والعلاقات بين الدال والذات والآخر، وقد أسهمت في بناء محور نقدي يوجه ضد المركز وبنيته المحورية والعلاقة بالآخر الهامشي.
يعد مفهوم التنكر من المفاهيم الرئيسية التي وظفها هومي بابا في نظريته، إذ يرى فيه: إعادة كشف عن تمثيل لمجموعة من العلاقات التي تدل على هوية ما أو معنى ما، فهو تمويه يؤدي إلى الوقوع في حقل التشابه دون أن يكون لهذا التشابه الناتج عن التمويه أي جوهر مع الخلفية التي يريد أن يتقارب معها، لكنه في الوقت نفسه يهدف إلى إظهار شيء أو البوح بشيء يدل على الهوية، أو المعنى الذي يسعى إلى تأكيده.
يسعى من يقوم بـالتنكر أو التمويه إلى التأثير على الخطاب المركزي المسيطر وزعزعة المفاهيم الرئيسية التي يقوم عليها، وبذلك يجعل هدفه الظهور في الساحة التي يرتكز عليها الخطاب المسيطر في صورة من التمثيل المموه الحضوري في ساحة الفاعل، وفي صورته من أجل تأكيد مفاهيم ذات طابع تمييزي وعنصري ضد الآخر، وهنا يرى بابا: أن التنكر بوصفه كناية حضور، لا يكتفي بهدم بنية السلطة النرجسية عبر دائرة الاختلاف وتكرر الرغبة في الحضور، بل يساهم في تثبيت أشكال المعرفة التمييزية والتصنيفية في الصورة الكولونيالية الحاضرة، فهو يطرح بالضرورة مسألة إقرار، أو شرعنة التمثيلات الكولونيالية، بوصفها ذات تمثيل عرقي، وثقافي، وقومي، تصنع إرباكًا وأزمة في مفهوم التاريخ الثقافي للمجتمعات الخاضعة لسيطرة التمثيل الكولونيالي.
إن النظام التمثيلي الذي يقدمه الآخر عن طريق التنكر والتمويه، تظهر منه مجموعة من العلامات التي يعبر بها الآخر عن ذاته عبر الخطاب المسيطر الكولونيالي، إذ يرى لاكان في مفهوم الحضور: أن من يهيمن على الواقع بخطاب السلطة المسيطرة على الأطر الثقافية والاجتماعية، التي يحاول المفهوم الآخر الغياب أن يظهر فيها عبر التنكر والتمويه والتلاعب والتحايل في رموز وعلاقات غير مباشرة أو بوسائل تعبير عديدة، أو توظيف المقولات الشعبية، التي تفرز المقاصد الخفية مما يتسلل الغياب الآخر عبر فراغات وثغرات في خطاب الحضور، الذي يعمل دائمًا الخطاب الكولونيالي، وفق وجهة نظر بابا، إلى تغييبه وإحلال الذات الكولونيالية في تمثيله.
لقد سعى بابا لتأكيد مفهوم الآخرية في الآخر ووضع توصيفًا لمفهوم الثبات في الذات المؤسِّسة للخطاب الكولونيالي، ويمثل هذا المفهوم في بناء الذات الكولونيالية، وهو بناء أيديولوجي للآخرية وسمة مهمة من سماته، الثبات بوصفه دالول الاختلاف الثقافي التاريخي العرقي في خطاب الكولونيالية، هو نمط متناقض من أنماط التمثيل: فهو يتضمن معنى الصلابة والنظام الذي لا يتغير، كما يتضمن أيضًا معنى اختلاف النظام، والتفسخ والتكرار الشيطاني. ومثل الثبات فإن الصورة النمطية، التي تمثل استراتيجية الخطابية الكبرى، شكل من المعرفة وتعيين الهوية، يتأرجح بين ما هو في مكانه على الدوام، معروف مسبقًا، وبين ما ينبغي تكراره على نحو قلق.
كذلك تأثر بابا بمفهوم الصورة أو المرحلة المرآوية عند لاكان، إذ تأتي بعد المرحلة ما قبل المرآوية، وتعني حالة شعورية موجودة في بنية الأسرة، أي إنها موجودة في داخل المركز الأسري وتمتاز بالثبات في داخل البناء الأسري، أما المرحلة المرآوية التي يكونها الطفل بالآخرين بعد أن يجتاز شعوره بذاته وذلك بفضل استخدام المرآة.
هنا تكون العلاقة بين الطفل وذاته علاقة بعيدة عن واقعها، وتأتي هذه اللا واقعية بعد أن يمر الطفل مع صورته بالمرآة بثلاثة مستويات تفاعلية: أي يتفاعل مع صورته في المرآة، والثانية يحدث انزياح في موضوع صورته كشيء واقعي، يتوقف عند مستوى التفاعل، والثالثة مرحلة التقمص لشخصية الصورة التي في المرآة، ويتعامل معها بأنها صورة لشخص آخر، ومن ثم يحدث التحول في الذات، ويبدأ معها مرحلة التنافر التي تولدها المرآة بين الذات وواقعها.
إن التنافر الحاصل بين الذات والواقع ينتج فضاء من الاختلاف بين الطرفين في مفهوم خلق توافق وتواصل في صيغ إنتاج مشتركات بين الشكلين، ومن يطابق الآخر بعد أن توصلت الذات الناظرة في المرآة بعدم التشابه مع المرئي المحاكي شكلًا لها، وهنا يربط بابا بين صورة الذات والآخر في المرآة بمفهوم البعد الثالث والهوية المحاكاتية، وذلك عن طريق اعتبار الصورة التي تكون في المرآة عند لاكان وفي الخطاب الكولونيالي للآخر ليست سوى ملحق بالسلطة والهوية، فلا ينبغي بأي حال من الأحوال أن تقرأ محاكاة بوصفها مظهرًا لواقع. وليس النفاذ إلى صورة الهوية ممكنًا أبدًا إلا بنفي أي إحساس بالأصالة أو الكمال، فسيرورة الانزياح والتباين الغياب/الحضور، التمثيل/التكرار تحول صورة الهوية إلى واقع حدي قائم على عتبة الشعور، فالصورة في آن معًا ضرب من الاستبدال الاستعاري، أو ضرب من وهم الحضور. وهنا يقع مفهوم البعد الثالث وهو ما يطلق عليه بابا الهوية المحاكاتية أو صورتها البصرية.
أوجد بابا في الفضاء الثالث مفهومًا جديدًا أخذ وجوده من الاشتباك الثقافي الحاصل بين الشرق والغرب، أي بتصادم ثقافتين مختلفتين، ولكل منهما فضاؤه المعرفي الذي يتواصل فيه أفراده ثقافيًا واجتماعيًا.
إن الفضاء الثالث هو البعد الذي يصاغ فيه النتاج الثقافي على وفق المنظور الذي يقع فيه صورة التصارع بين أنظمة الثقافة بين الجانبين، مما ولد شيئًا ثالثًا يحمل عناصر الثقافتين أطلق عليه بابا اسم الهجنة أو الهجين، إذ يرى أن كل البيانات والأنظمة الثقافية تصاغ في فضاء يسميه الفضاء الثالث للتعبير. عادة ما تظهر الهوية الثقافية في هذا الفضاء المزدوج والمتناقض، وهو بالنسبة إلى بابا يجعل الادعاء بوجود نقاء هرمي للثقافات قضية وهمية.
إن نظرة بابا إلى مفهوم الهجين ليست نظرة تصالحية مع الإرث الاستعماري، أو تصالحية مع ما قام به المستعمر ضد الثقافات المحلية التي خضعت بلدانها للهيمنة الكولونيالية، بل نظرة سلبية لفضح للتدخل القسري في ثقافة الشعوب الأخرى، وما أنتجه هذا التدخل من ثقافة هجينة تحمل من الفضاءين علامات تدلل على الصراع الثقافي بينهما، وأصبحت في الوقت نفسه علامة إدانة للممارسات الكولونيالية التي مارستها السلطة الإمبريالية على الشعوب.
مقالات ذات صلة:
نقد ما بعد الاستعمار “ما بعد الكولونيالية”
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا